![]()
لم يكن مفاجئًا أن يخرج الكيزان، أمنجية النظام البائد وحملة السلاح ومشرعي وظيفة مغتصب
ليصفوا ثوار ديسمبر بالصعاليق. هذا خطابهم الطبيعي، لغتهم الأصلية، وسلاحهم الأخير بعد أن سقطت دولتهم وبقيت جرائمهم. المفاجأة الحقيقية، الصادمة حد الغثيان، أن يجلس بينهم كامل إدريس، لا ضيفًا عابرًا ولا صامتًا مرتبكًا، بل شريكًا في الإهانة، ومطالبًا بسن قوانين تمنع التظاهر، وكأن الدم الذي سال في الشوارع لم يكن كافيًا.
هنا لا نتحدث عن اختلاف سياسي، ولا عن مراجعة فكرية، بل عن سقوط أخلاقي كامل. فالكوز الأمنجي القاتل مفهوم في عدائه للثورة؛ هو يكرهها لأنها كشفت عورته وأسقطت سلطته وهددت امتيازاته المبنية على القمع والنهب. هذا عداء صريح لا يحتاج تفسيرًا. لكن ما لا يُفهم ولا يُغتفر، أن يتحول من كان يتحدث باسم القانون وحقوق الإنسان إلى بوق في مجلس الجناة.
كامل إدريس هو ذاته الذي كان، في زمن البشير، يطالب بالسماح بالتظاهر، ويدين قتل المتظاهرين، ويتحدث عن حق الناس في التعبير السلمي. فما الذي تغيّر اليوم؟ هل تبدّل تعريف التظاهر؟ أم تغيّر ميزان القوة؟ أم أن المبادئ، عند البعض، مجرد عباءة تُلبس حين تكون آمنة وتُخلع حين تقترب من النار؟
أن يصف ثوار ديسمبر بالصعاليق، وأن يطالب بتجريم التظاهر، هو إعلان صريح بأن القضية لم تكن يومًا مبدأ، بل موقعًا. موقع يُبدَّل حسب اتجاه السلطة، وحسب من يحمل السلاح، وحسب أي طريق أقصر إلى النفوذ. هذه ليست سياسة، بل انتهازية رخيصة تُمارَس فوق جماجم الضحايا.
الصعاليق الحقيقيون ليسوا من خرجوا يهتفون “حرية، سلام، وعدالة”، وليسوا من واجهوا الرصاص بصدور عارية. الصعاليق الحقيقيون هم من سرقوا الدولة، ونهبوا المال العام، وأداروا آلة القتل من المكاتب، ثم أعادوا إنتاج أنفسهم تحت لافتات القانون والاستقرار. الصعلوك ليس الثائر، بل من سرق الوطن ثم طالب الناس بالصمت.
الأخطر في هذا المشهد ليس شتيمة الثوار، بل محاولة إعادة تعريف الجريمة باعتبارها دولة، والقمع باعتباره قانونًا، والقتل باعتباره هيبة. أن يُستخدم خطاب القانون لتبرير منع التظاهر بعد أن استُخدم سابقًا لإدانة قمعه، فذلك ليس تناقضًا بريئًا، بل خيانة للمعنى، وتواطؤ مع الدم.
هذا الاصطفاف ليس زلة لسان ولا لحظة انفعال، بل وثيقة سياسية وأخلاقية كاملة. وثيقة تقول بوضوح إن بعض النخب لا مشكلة لديها في الجلوس مع القتلة، طالما أن الكرسي قريب، وأن الحرب فرصة، وأن الذاكرة قصيرة.
الثورة لا تحتاج شهود زور، ولا تبحث عن متحدثين باسمها. ما تحتاجه هو الذاكرة، وفضح الأقنعة، ورفض إعادة تدوير الجلادين والانتهازيين في آنٍ واحد. فالكوز الذي يكره الثورة متسق مع تاريخه، أما الذي كان يدّعي الدفاع عنها ثم جلس في خندق أعدائها، فهو الوجع الأكبر، لأنه لا يقتل الجسد فقط، بل يحاول قتل الحقيقة نفسها.