إلى الراجين الري في الجزيرة.. عندما تصبح المواسير مواسير!

إلى الراجين الري في الجزيرة.. عندما تصبح المواسير مواسير!

Loading

إلى الراجين الري في الجزيرة.. عندما تصبح المواسير مواسير!

من اللازمات الأسلوبية الشائعة التي تستخدم في التعبئة لإنجاز بعض المشاريع القائمة التي أصابها البوار أو تراجعت في مخرجاتها، عبارة “سنعيدها سيرتها الأولى”. يبدو لي أن هذا قصور في الهمة وزهد في التطور، إذ يجب أن يكون الطموح في السعي نحو الأحسن والأجود. فتلك السيرة الأولى الحسنة أنجزها قوم سلفوا، فينبغي أن يكون سعيك أنت نحو الأحسن. كما أن الحقيقة تقتضي أن نضع في البال أن تكرار التاريخ بإيجاد نسخة طبق الأصل من الذي مضى أمر مستحيل، فالماء لا يجري في ذات مجرى النهر مرتين. فلابد أن يكون هناك تغيير بفعل عامل الزمن، حتى ولو ذلك الزمن ثانية واحدة.

 

أريد التوسل بهذه الرمية للحديث عن سيرة مشروع الجزيرة الأولى التي ينادي باعادتها البعض. فهذا المشروع قد تكون له شيء من الفترات المربحة بالنسبة للإنجليز الذين أنشأوه، وكذا حكومات السودان المبكرة التي ورثت الحكومة الإنجليزية، وكذلك للموظفين الأوائل الذين عملوا فيه. أما بالنسبة للشريك الرئيسي -وهو المزارع- فسيرته الأولى سيرة مؤسفة كلها ظلم واستغلال واستعمار والحساب ولد. و(المكضبنا وما مصدقنا) يقرأ منشورنا القادم إن شاء الله. دا كله كوم، أما الكوم الآخر -وهو الأهم- أن هذا المشروع وبموارده الضخمة الحالية من مساحة واسعة، وأرض سهلية طينية منحدرة (نسبة التبخر والتسرب فيها منخفضة)، وشمس مدارية ساطعة، ومياه سطحية ومنسابة، وأمطار موسمية متفاوتة، وموقع جغرافي قاري ليس بعيداً من البحر، وكثافة سكانية مرتفعة، ونظام ري من خزانات (سنار الرصيرص) وقنوات وكباري، وخبرة تراكمية، وعروتين صيفية وشوية تتيحان إنتاج محاصيل غذائية ونقدية، وخضروات، وفواكه، ومنتجات غابية وحيوانية وسمكية… (لندع باطن الأرض وما فيها من مياه جوفية وبترول ومعادن جانباً، لأن ذلك سوف يدخلنا في الاقتصاد الريعي). وإن كانت المياه الجوفية يمكن أن تقوم بدور تكميلي لما تقوم به المياه السطحية إذا دعت الحاجة.

 

هذا المشروع بهذه الإمكانيات لم يعطِ أكثر من عشرة في المئة من طاقته المتاحة، بعبارة أخرى تسعون في المئة من طاقة المشروع غير مستغلة أو مهدرة (الفقر كعب، خاصة ذلك النوع من الفقر الذي يفضي للمزيد من الفقر… أها، دا ياهو فقرنا ذاتو).

 

رغم كل الذي تقدم، أسمحوا لي بأن أناقض نفسي وأتمنى أن تعود قنوات الري الرئيسية والفرعية في المشروع إلى شكلها الأول من حيث العمق والحواف -وإن شئت قل الضفاف-. في الجزيرة يقال “قيفة الترعة” (ياربي المهندسين بسموها شنو؟). ماعدا الشكل، كل نظام الري قابل للتطوير إلى أن يصل الري بالتنقيط والرشاشات، حتى شكل القنوات قد يقتضي التطور المدروس تغييره. ولكننا الآن في اليوم العلينا دا والحالة النحن فيها دي… محتاجين وبصورة عاجلة للقنوات بصورتها القديمة، محتاجين لمعالجة الخراب الذي أصابها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.

 

القنوات الرئيسية في مشروع الجزيرة كانت أبقاراً مقدسة، ممنوع منعاً باتاً الاقتراب منها إلا لمهندسي الري وكراكاتهم. أما القنوات الفرعية فكان يقوم عليها غفراء شدائد يلبسون عمامة صفراء. المزارع ينتظر الماء في أبوعشرين، أي اقتراب للمزارع -ناهيك عن المواطن العادي- من مأسورة الترعة (أي القناة) يعتبر جناية توجب المساءلة.

 

صيانة القناة تقوم على ثلاثة أركان، المحافظة على حافتيها ومستوى ارتفاعهما، ثم إزالة الطمي وإزالة الحشائش، وبهذا يظل المنسوب في المستوى المطلوب. لم يكن هناك حفر سنوي، الكراكة (أم دلو) كنا نراها كل أربعة سنوات في القناة الفرعية. هذه الكراكة رغم قبحها كان يعشقها أبو الري الحديث في السودان، المهندس صغيرون الزين صغيرون، فلقب بعاشق الكراكة لأنه كان يرى فيها الزراعة المفرهدة والبهائم الراتعة، كان يراها مدخلاً للخير والخصب والنماء، وجهاً حسناً لأنها تجلب الخضرة. من يطلب من الدكتورة انتصار الزين أن تكتب كتاباً عن والدها العظيم، كما فعلت خالتها البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه لوالدها العظيم، لكي يعرف السودانيون من الذي بنى السودان الحديث؟ فيما يليّني، فإن شاء الله شرعت في هذا لكي أثبت أن ذلك المزارع في مشروع الجزيرة هو عظيم وصانع تاريخ، ولا يقل أسهماً في بناء هذا السودان المنكوب ببنيّه السياسيين.

 

عودة إلى موضوعنا بعد هذا التداعي، كان الطمي المستخرج في العام في كل الجزيرة حوالي ستة عشر مليار متر مكعب، يوضع على جانب القناة، تمشي عليه الحيوانات السارحة، ثم تحمله الريح إلى الحواشات فيزيدها خصوبة. كانت عمليات الحفر يقف عليها مهندسو الري وعمالهم بأدواتهم العملية والعلمية ليأتي مستوى المياه ومنسوبها في القناة بالوضع المطلوب “بالشوكة والشنكار” كما يقولون، وبالدراجي يسمون ذلك “ميزانية الترعة”. فندر أن تسمع شكوى من العطش، لا في أول الترعة ولا في آخرها، لا في أول بيت ولا آخر بيت (معذرة للتفصيل لأهل الجزيرة، أما للأهل من خارجها فالمقصود هو كل الأرض المزروعة تروى بالصورة المطلوبة).

 

ثم مر على السودان زمن أهملت فيه الزراعة واضطرب الإدارة في الجزيرة للبوار العالمي الذي أصاب محصول القطن -عماد الدورة الزراعية وداعم الخزينة العامة الأول-. وتم تهميش مهندسي الري من قبل الإدارة الزراعية، وظهرت الشركات المسنودة سياسياً التي امتلكت البوكلينات الخفيفة بدل الكراكات الثقيلة، وأعطيت عطاءات الحفر في الجزيرة دون مناقصة معلنة، ورفعت عنها الرقابة، وحوسبت بالكم وليس بالكيف، فأخرجت في عام واحد قرابة المائة مليار متر مكعب من الطمي. فاضطربت ميزانية القنوات فأصبحت المياه فيها دون مستوى مأسورة أبوعشرين، وأصبحت ضفافها عبارة عن جبال لا تطلعها بقرة أو عنزة أو نعجة، ولا تحمل الريح منها إلا النذر اليسير. من أراد دقة الأرقام عن الطمي عليه الرجوع إلى تقرير لجنة الدكتور عبد الله عبد السلام، لقد قرأته ساعة صدوره وضاع الآن مني ضمن ما ضاع من المكتبة التي أوقد الدعامة بها النار تحت سرير السكسبندة لشواء لحم بهائمي. لقد اتخذوا منزلي معسكراً بعد أن طردوني وأسرتي منه بالبندقية كما فعلوا مع كل أهل القرية في ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤، فكتبت ما كتبت عنه من الذاكرة التي لم يقصر الدعامة معها هي الأخرى.

 

مناسبة هذا الموضوع أنني شاهدت فيديو مرسل لي من بلدياتي وصديقي الأستاذ عبد الله جاد الله أحمد نمر، مدير وكالة سونا للأنباء السابق والمزارع الآن. يظهر فيه أهلنا المزارعون من قرية الهبيكة وهم يخوضون في قناة الري لتنظيفها من الحشائش يدوياً لتلافي العروة الشتوية. المنظر يكشف التدهور الذي وصل إليه الري في المشروع، في نفس الوقت وصفه عبد الله بأنه برضو كويس. أتفق معه في أنه برضو كويس، ولكن مع زيادة في الحيثيات، وإن شاء الله هذا هو موضوع مقالنا القادم.