أزمة تجنيد الحريديم في إسرائيل: معركة الهوية بين الديني والقومي

أزمة تجنيد الحريديم في إسرائيل: معركة الهوية بين الديني والقومي

Loading

في 7 أغسطس/ آب الماضي، عنونت صحيفة “ياتيد نئمان” (Yated Ne’eman) الحريدية صفحتها الأولى بكلمة واحدة عريضة: “حرب”. ليس المقصود هنا الحرب في غزة، بل الحرب الداخلية ضد حكومة بنيامين نتنياهو التي يتّهمها اليهود المتشدّدون بتقويض أسس حياتهم الدينية، بعد توقيف عدد من شبّانهم الرافضين للخدمة العسكرية الإلزامية المفروضة على جميع المستوطنين اليهود في إسرائيل(1).

وقال الحاخام دوف لاندو، الزعيم الروحي لليهود الحريديم من أصول أوروبية، للصحيفة: “ستُواجه السلطات يهودية حريدية عالمية موحّدة تُقاتل من أجل روحها”.(2)

في ذلك اليوم، أطلق الحاخامات اليهود المتشدّدون، المعروفون بـ”الحريديم“، دعوة إلى “تعبئة دينية” في مواجهة “التعبئة العسكرية”، وحثّوا أتباعهم على النزول إلى شوارع القدس وتل أبيب للتظاهر ضد محاولات فرض التجنيد على شبابهم. لبّى الآلاف النداء؛ إذ شهدت الشوارع احتجاجات وأغلق المتظاهرون الطرقات لساعات استجابةً لدعوة حاخاماتهم. كما اشتبك المتظاهرون مع الشرطة، وأطلقوا شعارات ضد الخدمة العسكرية، واعتُقل بعضهم لإلقائهم الحجارة.(3)

بعد أيام، شرعت الشرطة الإسرائيلية في اعتقال بعض الهاربين من التجنيد بين الحريديم. واحتجاجًا على ذلك، شهد سجن بيت ليد العسكري في 14 من الشهر ذاته تظاهرة شارك فيها المئات من أعضاء مجموعات حريدية، حيث اشتبكوا مجددًا مع الشرطة وحاولوا اقتحام الحواجز، وأحرقوا ومزّقوا أوامر التجنيد، فيما اعتُقل عدد منهم.(4)

وهذه ليست المرة الأولى التي تعتقل فيها السلطات متهرّبين من الخدمة العسكرية الإلزامية في الأشهر الأخيرة، وهو ما دفع يتسحاق غولدكنوف، زعيم حزب “يهدوت هتوراه” الحريدي، في يوليو/ تموز الماضي، إلى القول إنّ “اليهود الحريديم في إسرائيل قد يضطرون إلى مغادرة البلاد جماعيًا إذا بدأت السلطات باعتقال طلاب المعاهد الدينية الحريدية الرافضين للتجنيد الإلزامي”.

وكان غولدكنوف قد استقال في يونيو/ حزيران الماضي من منصبه وزيرًا للإسكان احتجاجًا على عدم إقرار قانون يعفي طلاب المعاهد الدينية الحريدية من الخدمة في جيش الاحتلال.(5)

الإعفاء من التجنيد: من استثناء ديني إلى ورقة ضغط سياسي

الخدمة العسكرية إلزامية لمعظم اليهود في إسرائيل، من الرجال والنساء على حد سواء، إلا أنّ اليهود الحريديم معفيون منها. وتعود سياسة الإعفاء هذه إلى قيام دولة إسرائيل عام 1948، حين منح دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، إعفاءً من الخدمة العسكرية لنحو 400 طالب من “يشيفا”، المدرسة الدينية اليهودية التي تُركّز على الدراسة المكثّفة للتوراة والتلمود؛ إذ رأى في دراستهم للتوراة، التي كانوا يعتبرونها حصنًا يحمي إسرائيل من أعدائها، جزءًا من إحياء التراث الديني اليهودي الذي تلاشى إلى حد كبير بعد “الهولوكوست”.(6)

لكنّ هذه الإعفاءات المؤقتة تحوّلت مع الوقت إلى سياسة دائمة اتسعت تدريجيًا مع تضخّم أعداد الحريديم، مما فجّر موجات متتالية من الاعتراضات والدعاوى أمام المحكمة العليا الإسرائيلية، التي أبطلت مرارًا القوانين التي تسمح بالإعفاء الجماعي باعتبارها “تمسّ بمبدأ المساواة”.

ورغم ذلك، عجزت الحكومات المُتعاقبة عن إقرار قانون تجنيد دائم، بفعل النفوذ الكبير الذي تتمتّع به الأحزاب اليهودية المُتشدّدة داخل الكنيست؛ إذ كثيرًا ما تؤدّي دورًا حاسمًا في تشكيل الائتلافات الحكومية، فتوظّف هذا النفوذ للضغط من أجل الإبقاء على الإعفاءات في مقابل منح دعمها السياسي للحكومة.(7)

حرب الإبادة على غزة تشعل النزاع مجددًا

في يونيو 2024، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بالإجماع بأنّه “يجب” على الدولة تجنيد طلاب المدارس اليهودية الحريديم في الجيش، في قرار تاريخي جاء فيه أنّ “السلطة التنفيذية ليست لديها سلطة الأمر بعدم تطبيق قانون الخدمة الأمنية لطلاب المدارس التلمودية في ظل غياب إطار تشريعي مناسب. وبدون تثبيت الإعفاء في إطار قانوني، يجب على الدولة أن تعمل على تطبيق القانون”.(8)

وأتى هذا القرار في ذروة حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، في وقت يُواجه جيش الاحتلال استنزافًا كبيرًا في صفوف جنوده نتيجة القتال المتواصل والخسائر البشرية وتهرّب الكثيرين من الالتحاق بالخدمة، إلى جانب الارتفاع الملحوظ في حالات الانتحار بين الجنود، ما دفع المؤسسة العسكرية إلى البحث عن مصادر إضافية للتجنيد بهدف تعويض النقص.

وكان جيش الاحتلال قد أعلن في أغسطس/ آب الماضي أنّه بحاجة ماسّة إلى نحو 12 ألف مجنّد جديد، في حين يُقدَّر عدد الحريديم المؤهّلين للخدمة العسكرية من الفئة العمرية بين 18 و24 عامًا بنحو 80 ألفًا لم يلتحقوا حتى الآن.(9)

الحريديم في إسرائيل: النمو السكاني والعزلة الدينية

تضاعف عدد الحريديم بشكل هائل منذ عام 1948؛ إذ ارتفع من 40 ألفًا إلى ما يُقارب مليون نسمة اليوم، أي نحو 13% من سكان إسرائيل. وتُشير التقديرات إلى أنّ 22% من الأطفال بعمر السادسة خلال عام 2024 هم من الحريديم، وأنّ نسبتهم ستصل إلى 30% بحلول عام 2035، ما يعني أنّ أي سياسة إعفاء جماعية قد تُصبح غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل.(10)

وإلى جانب الصهيونيين الدينيين، يُعَدّ الحريديم أحد الفرعين الرئيسيين لليهودية الأرثوذكسية في إسرائيل. ويشمل التيار اليهودي المتشدّد “الحريديم” تقليدين رئيسيين من أصول أوروبية “أشكنازية”، وهما ما يُعرف بـ”اللتوانيين” و”الحسيديين”، بالإضافة إلى الحريديم الشرقيين “السفارديم” من أصول غير أوروبية. وضمن هذه المجموعات تُوجد تفرّعات فرعية عدّة، خاصةً داخل التيار الحسيدي.(11) ويُعزى نشوء هذه الحركة إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، ردّ فعلٍ على التحديث والحداثة، إذ خشي الحريديم الأوائل أن يصرف التغييرُ الانتباهَ عن الدراسة الدينية.(12)

ويُعدّ الحريديم أكثر طوائف اليهود التزامًا بالدين، وهم يعزلون أنفسهم عن المجتمع ليُكرّسوا حياتهم للصلاة والعبادة. يمتازون بملابس مختلفة؛ حيث ترتدي النساء أزياء طويلة وفضفاضة مع تغطية الرأس، بينما يرتدي الرجال بدلاتٍ سوداء أو معاطف طويلة وقبعاتِ فروٍ كبيرة. كما يتمتعون بأسلوب حياة مختلف؛ إذ يُحافظون على عزلتهم في مجتمعاتهم عن العالم الخارجي قدر الإمكان، باستثناء التفاعلات الاقتصادية الضرورية للحفاظ على “نقاء” حياتهم من دون تدنيسها بمشاغل العالم المادي.(13)

موقف الحريديم من الصهيونية والسياسة

بين الحريديم، تُوجد أقلية صغيرة من الجماعات المناهضة صراحةً للصهيونية، مثل “Edah HaChareidis” و”Neturei Karta”، والتي ترفض الاعتراف بدولة إسرائيل باعتبارها كيانًا أُقيم على يد يهود علمانيين وليس لتحقيق غاية إلهية.(14) وهي لا تُشارك في الانتخابات وترفض تلقّي أي تمويل حكومي. أما غالبية الحريديم فهم “لا-صهيونيون” (a-Zionist)، أي أنّهم يتّخذون موقفًا حياديًا نسبيًا من الصهيونية، ويقبلون بوجود الدولة طالما لا تتدخّل في أسلوب حياتهم الديني.(15)

سياسيًا، يُنظّم اليهود المتشدّدون أنفسهم ضمن أحزاب تعكس التيارات الدينية الرئيسية داخلهم. فمن ناحية الأشكناز، يمثّل حزب “ديغل هتوراه” التيار “اللتواني” (غير الحسيدي)، فيما يُهيمن التيار الحسيدي على حزب “أغودات يسرائيل“، وقد شكّل الحزبان تكتّلًا برلمانيًا مشتركًا باسم “يهدوت هتوراه”. أمّا اليهود المتشدّدون السفارديم (من غير الأشكناز) فينضوون تحت حزب “شاس”.(16)

ويُسجَّل دعم مرتفع جدًا لهذه الأحزاب داخل المجتمع الحريدي؛ إذ تُعدّ أحزابًا مجتمعية بامتياز. ففي انتخابات أبريل/ نيسان وسبتمبر/ أيلول 2019، حصدت هذه الأحزاب أكثر من 90% من أصوات الحريديم. وعلى الرغم من الخلافات الداخلية المُتعدّدة، فإن هذا التأييد الكبير يمنح الأحزاب الحريدية قدرة عالية على الظهور كأنها موحّدةً في المجال العام.(17)

لماذا يرفض الحريديم الانخراط في الجيش؟

يرى الحريديم أنفسهم أنّهم التيار الأخير في اليهودية الذي يلتزم حصريًا بالقيم والمبادئ الدينية اليهودية التقليدية، ويميلون إلى مساواة التديّن المتشدّد باليهودية نفسها؛ إذ يعتبرون أنّ جميع التيارات الأخرى انحرافات غير شرعية ويرفضونها.

ويستند رفضهم للانخراط في الجيش إلى شعورهم العميق بالهوية الدينية التي يخشى قادتهم أن تُضعفها الخدمة العسكرية.(18) كما تُوجد أسباب عدّة تجعلهم يُعارضون المشاركة في الجيش، منها اعتقادهم أنّ الخدمة العسكرية ستصرفهم بالضرورة عن دراسة التوراة التي يعدّونها الغاية الأساسية في حياتهم. ويرون أنّ الانخراط في الجيش سيؤدي إلى تقليص عزلة مجتمعاتهم عن المجتمع الأوسع، بينما يعتقد كثيرون منهم أنّ مبادئ الحريديم تتعارض مع قيم الجيش. ناهيك عن أنّ انخراطهم في الجيش يتطلّب توفير ترتيبات خاصة، مثل الخدمة في وحدات للرجال فقط، وضمان عدم اختلاطهم بالنساء، وإتاحة أوقات صلاة مطوّلة، والالتزام بشروط سكن صارمة.(19)

وفي حين يخدم بعض الرجال الحريديم في الجيش، لا تفعل الغالبية الساحقة ذلك، وهو ما يعتبره معظم الإسرائيليين غير الحريديم أمرًا مجحفًا بشدّة ويُخلّ بمبدأ “تقاسم العبء” الذي يقوم عليه التجنيد الإجباري. وقد أظهر استطلاع أجراه “معهد الديمقراطية الإسرائيلي” في مارس/ آذار 2024، أنّ 70% من اليهود الإسرائيليين يؤيّدون إنهاء الإعفاءات الممنوحة للحريديم، ارتفاعًا بنسبة 10% مقارنةً بعام 2018.(20)

الثمن الاقتصادي للعزلة

وبسبب وجودهم في مجتمعات مغلقة وتكريس حياتهم للدراسة الدينية، لا يعمل معظم الرجال من الحريديم، بل يعتمدون على التبرّعات والمساعدات الحكومية وأجور زوجاتهم في كثير من الأحيان. وبالنسبة إلى معظم الإسرائيليين الذين تُموَّل هذه الإعانات من ضرائبهم وهم ملزمون أنفسهم بالخدمة العسكرية، فإنّ هذه الإعفاءات لطالما كانت مصدر استياء لهم، وقد ازداد هذا الاستياء منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023.(21)

وتُعَدّ الآثار الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع الحريديم في إسرائيل كبيرةً بسبب معدلات نموّه المرتفعة ونمط حياته المختلف. وقد أدى ذلك إلى انتشار واسع للفقر والتحديات الاقتصادية داخل هذا المجتمع، إلى جانب انخفاض مساهماته الضريبية واعتماده الكبير على المساعدات الاجتماعية الحكومية، ما يشكّل عبئًا على موارد الدولة ويؤثّر على البنية الاقتصادية والاجتماعية العامة لإسرائيل. ومع ذلك، هناك جهود وضغوط مستمرة لزيادة دمج الحريديم في سوق العمل، إلا أنّ وتيرة هذا التغيير لا تزال بطيئة وتشكل تحدّيًا رئيسيًا للسلطات.(22)

حتمية المواجهة

ومن الواضح أنّ استمرار الوضع الراهن غير ممكن في المدى المتوسط؛ إذ إنّ أي محاولة لفرض التجنيد الإجباري بالقوة قد تُفضي إلى أزمة سياسية حادّة، وربما إلى تمرّدٍ مدني في الأحياء الحريدية التي يُسيطر عليها زعماء دينيون يرفضون سلطة الدولة، كما ظهر في الاحتجاجات الأخيرة واستقالة الأحزاب الحريدية من الحكومة.

في المقابل، قد يؤدي استمرار الإعفاءات إلى انهيار منظومة التجنيد الإجباري برمّتها مع تقلّص عدد المجنّدين.

وتكشف أزمة تجنيد الحريديم عمق التناقضات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي بين الطابع الديني والطابع القومي للدولة. ففيما يسعى جيش الاحتلال إلى تجنيد جميع الذين يستوفون شروط الخدمة الإلزامية لغايات أمنية، يرى الحريديم أنّ الحفاظ على هويتهم الدينية أولويةٌ قصوى تفوق أي التزامات مدنية.

ومع تسارع التحوّلات الديموغرافية واستمرار الحروب التي يشنّها الاحتلال، تبدو المواجهة بين الدولة والمجتمعات الحريدية حتمية.


المراجع

[1] Luc Bronner, In Israel, ultra-Orthodox Jews are opposing Netanyahu to avoid conscription, Le Monde, August 9, 2025.
[2] AFP, Israel ultra-Orthodox vow to push back after students’ arrest, August 7, 2025.
[3] The Times of Israel, Haredi protesters clash with cops in Jerusalem, Bnei Brak as leaders vow war against draft, August 8, 2025.
[4]  Sam Sokol, ‘Free the hostages’: Hundreds of Haredim protest outside prison holding draft evaders, The Times of Israel, ِAugust 15, 2025.
[5] نايف زيداني، وزير حريدي يستقيل من حكومة نتنياهو وبداية تصدعات بكتلة برلمانية، العربي الجديد، 12 حزيران 2025.
[6] Elisabeth Bumiller, Natan Odenheimer, and Johnatan Reiss, The War in Israel Over Serving in War, The New York Times, August 24, 2025.
[7] Nicholas Welsh, Ultra-Orthodox parties quit Israeli gov’t over conscription, DW, July 24, 2025.
[8] فرانس24، المحكمة العليا في إسرائيل تقضي بإلزامية تجنيد الحريديم في الجيش، 25 حزيران 2024.
[9] The Times of Israel, Tens of thousands of reservists drafted ahead of Gaza City takeover, but turnout down, September 2, 2025.
[10] Elisabeth Bumiller, Natan Odenheimer, and Johnatan Reiss, The War in Israel Over Serving in War, The New York Times, August 24, 2025.
[11] Peter Lintl, The Haredim as a Challenge for the Jewish State, Stiftung Wissenschaft und Politik, December 9, 2020.
[12] Aljazeera, Who are the Haredim in Israel and what are their demands?, July 1, 2024.
[13] المصدر نفسه
[14] Elisabeth Bumiller, Natan Odenheimer, and Johnatan Reiss, The War in Israel Over Serving in War, The New York Times, August 24, 2025.
[15] Peter Lintl, The Haredim as a Challenge for the Jewish State, Stiftung Wissenschaft und Politik, December 9, 2020.
[16] المصدر نفسه
[17] المصدر نفسه
[18] James Mackenzie, Israel’s contentious military exemption for ultra-Orthodox community, Reuters, June 11, 2025.
[19] Aljazeera, Who are the Haredim in Israel and what are their demands?, July 1, 2024.
[20] Susan Greene, Survey: Large majority of Israeli Jews want Haredim to serve in the military, Forward, March 10, 2024.
[21] James Mackenzie, Israel’s contentious military exemption for ultra-Orthodox community, Reuters, June 11, 2025.
[22] Gabriel Gordon, Haredi Integration and Tax Payments – The Burden and the Potential, Israel Democracy Institute, May