![]()
الحشد الشعبي ليس مجرّد قوة عسكرية ظهرت في ظرفٍ استثنائي، بل بات عنصرًا متداخلًا في بنية الدولة العراقية وحياتها العامة. فمنذ تأسيسه تمدّد دوره تدريجيًا من ساحة القتال ضدّ تنظيم “الدولة” إلى فضاءات السياسة والاقتصاد والإدارة المحلية، ما جعله جزءًا لا يتجزّأ من معادلات السلطة في البلاد.
وقد أفرز هذا التمدّد شبكة نفوذٍ واسعة تربط الفصائل المسلحة بمؤسسات الدولة وأحزابها، مكوّنةً واقعًا معقّدًا يضع العراق أمام تحدّياتٍ عميقة تتعلّق بالسيادة وحصرية السلاح وإمكان بناء دولةٍ مركزيةٍ قوية.
وفي الوقت نفسه، يعكس الحشد الشعبي حالةً من التناقض في الوعي العراقي: فهو بالنسبة إلى البعض ضمانةٌ للأمن والاستقرار بعد سنواتٍ من التهديدات الوجودية، بينما يراه آخرون مصدر إضعافٍ للدولة ومفاقمةً للانقسامات الداخلية. وبين هذين الرأيين يستمر الحشد في لعب دورٍ محوري داخل المشهد العراقي، بحيث لا يمكن فهم السياسة في البلاد أو استشراف مستقبلها من دون التوقّف عند موقعه وتأثيره.
نشأة الحشد الشعبي
في العاشر من يونيو/ حزيران 2014، بدأ نجم الحشد الشعبي يسطع. سقطت مدينة الموصل بيد تنظيم “الدولة” بعد انهيار الجيش العراقي، وتقدّم بسرعة نحو بغداد وهدّد كربلاء والنجف، وهما مدينتان مقدّستان لدى الطائفة الشيعية.
كانت الدولة العراقية تعيش أزمة ثقةٍ بعد فشل الجيش، فبرزت الحاجة إلى قوة تعبئةٍ جماهيرية.
وفي الثالث عشر من يونيو/ حزيران 2014، أصدر المرجع الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني فتوى “الجهاد الكفائي”، ومضمونها دعوة كلّ من يستطيع حمل السلاح إلى التطوّع للدفاع عن العراق ومقدّساته. فكانت هذه الفتوى الأساس الشرعي والديني لتشكيل قواتٍ جديدة لمواجهة تنظيم “الدولة”.
استجاب آلاف المتطوّعين مباشرةً لنداء السيستاني، وانضمّ إليهم مقاتلو الفصائل الشيعية المسلّحة الموجودة أصلًا قبل 2014، مثل:
- منظمة بدر
- عصائب أهل الحق
- كتائب حزب الله
- سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر
وهكذا بدأت تتشكّل نواة “الحشد الشعبي” قوةً عسكريةً موازيةً للجيش. وفي البداية كان الحشد عبارة عن “لجانٍ شعبية” متفرّقة وغير منتظمة، حيث أعلنت حكومة نوري المالكي في صيف 2014 تشكيل هيئة “الحشد الشعبي” لإدارة المتطوّعين.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، صوّت البرلمان العراقي على قانون الحشد الشعبي الذي اعترف به جزءًا من القوات المسلحة العراقية، خاضعًا مباشرةً للقائد العام (رئيس الوزراء). ويضمّ الحشد أكثر من 40 فصيلًا، معظمها شيعية، لكن هناك أيضًا:
- فصائل سنّية (مثل حشد الأنبار ونينوى)
- فصائل تركمانية (خصوصًا في تلعفر وكركوك)
- وحدات مسيحية (كتائب بابليون).
- وحدات إيزيدية (في سنجار).
الدور الميداني للحشد الشعبي
برز الحشد الشعبي قوةً عسكرية وسياسية محورية منذ تأسيسه، إذ لعب دورًا أساسيًا في معارك تحرير المدن من تنظيم “الدولة”، أبرزها تكريت (2015)، الفلوجة (2016)، والموصل (2017).
ولم يقتصر انتشاره على جبهات القتال ضدّ الإرهاب، بل شارك أيضًا في ضبط الأمن بالمناطق المحرّرة.
أما المعارك الرئيسية التي خاضها ضد التنظيم فهي:
-
معركة آمرلي (2014): أول اختبار ميداني للحشد، كُسر فيه حصار تنظيم الدولة عن البلدة التركمانية الشيعية في صلاح الدين.
-
معركة جرف الصخر (أواخر 2014): عملية استراتيجية على حدود بغداد وكربلاء شارك فيها الحشد بقوة وطرد “داعش”.
-
تحرير تكريت (مارس/ آذار 2015): كان الحشد عمود العملية الفقري، مع دعمٍ جوي أميركي، واستعيدت المدينة.
-
معركة بيجي (2015): معركة معقّدة حول أكبر مصفاة نفطية في العراق، لعب الحشد فيها دورًا محوريًا.
-
تحرير الفلوجة (مايو/ أيار – يونيو/ حزيران 2016): ساهم الحشد في تطويق المدينة بينما دخلها الجيش.
-
معركة الموصل (أكتوبر/ تشرين الأول 2016 – يوليو/ تموز 2017): تولّى الحشد المحور الغربي لعزل المدينة عن سوريا وقطع طرق الإمداد نحو الرقة، وحرّر مناطق واسعة مثل تلعفر والبعّاج والحضر.
بعد هزيمة تنظيم “الدولة” عسكريًا عام 2017، بقي الحشد منتشرًا في محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى والأنبار، وتحول إلى قوة ضغطٍ سياسي وأمني بموازاة الجيش والشرطة. كما شارك في تأمين المناطق المحرّرة مثل الموصل وتكريت والأنبار، وحماية المرافق الحيوية والطرق، والتصدّي لجماعات مسلحة محلية وفلول تنظيم القاعدة في ديالى وصلاح الدين. وتدخّلت بعض فصائله في فضّ نزاعاتٍ عشائرية ومراقبة احتجاجات، فيما نشطت أخرى على الحدود مع سوريا وإيران لضبط التهريب ومراقبة تحرّكات الجماعات المسلّحة.
الدور السياسي
تطوّر الحشد الشعبي بعد سقوط الموصل 2014 مستندًا إلى فراغٍ أمني، واعتمد على إيران للحصول على رأس المال الاقتصادي والقسري والرمزي؛ فاستثمر شرعيته القتالية ضدّ تنظيم “الدولة” لتعزيز موقعه السياسي، واستند إلى رأس المال الاجتماعي (الدعم الشعبي) والقسري (القوة المسلحة) لتكريس نفوذه.
وهكذا تشكّل جناحٌ سياسي-عسكري قادرٌ على المنافسة داخل الحقل السياسي العراقي وعلى مستوى عابر للحدود.
بدأت فصائل الحشد بالتنظيم السياسي عبر إنشاء أحزابٍ وتحالفات؛ أبرزها تحالف الفتح بقيادة هادي العامري، الذي ضمّ فصائل رئيسية مثل بدر والعصائب وكتائب حزب الله. وحقق التحالف نتائج مهمّة في انتخابات 2018، حيث حصل على 14 مقعدًا في البرلمان العراقي، مما جعله أحد اللاعبين الرئيسيين في السياسة العراقية.
وفي انتخابات 2021 حصل على 14 مقعدًا، ما جعله ثاني أكبر كتلة شيعية بعد التيار الصدري. ومع انسحاب نواب التيار في يونيو/ حزيران 2022 توزّعت مقاعدهم على كتلٍ أخرى، بينها الفتح، فزاد تأثيره في البرلمان. وأسهم في تشكيل حكومة محمد شياع السوداني عام 2022، وامتدّ تأثير الحشد إلى مؤسسات الدولة حيث بات لبعض قادته حضورٌ في وزاراتٍ وهيئاتٍ أمنية واقتصادية.
ضَمَن هذا النفوذ استمرار تمويل الحشد والحفاظ على استقلالية هيكله، كما مكنه من التأثير في قرارات استراتيجية تخص المحافظات التي يسيطر عليها أو التي يوجد فيها عناصره. علاوة على ذلك، سعى الحشد إلى تعزيز مصالحه الاقتصادية، خصوصًا في مشاريع الإعمار والطاقة، مستفيدًا من تحالفاته السياسية في بغداد.
وفي هذه الفترة، سعت الحكومات المتعاقبة إلى وضع الحشد ضمن إطارٍ رسمي شبيه بالجيش والشرطة، بحيث يُصنَّف قوةً تابعةً للدولة براتبٍ رسمي وقياداتٍ معترفٍ بها:
-
نوري المالكي (2006–2014): اعتمد مبكرًا على تنظيماتٍ شيعية لتعزيز سلطته مع ضعف الجيش والشرطة. وبعد إقالته 2014 ظلّ قريبًا من قياداتٍ مثل هادي العامري وأبو مهدي المهندس.
-
حيدر العبادي (2014–2018): تولّى رئاسة الوزراء بعد سقوط الموصل وأصدر الأمر التنفيذي رقم 61 (2016) لدمج الحشد بوصفه “تشكيلًا عسكريًا مستقلًا” يتبع القائد العام. وفي 2016 أقرّ البرلمان قانون الحشد بدعمٍ من تحالف الفتح. عمليًا تعذّر فرض السيطرة بسبب نفوذ القيادات؛ ففالح الفياض، رغم رئاسته هيئة الحشد، واجه سطوة أبو مهدي المهندس الذي عزّز نفوذ كتائب حزب الله داخل الهيئة، فيما استخدم هادي العامري منظمة بدر جسرًا بين البرلمان والحشد.
-
عادل عبد المهدي (2018–2019): أصدر في 1 يوليو/ تموز 2019 مرسومًا لإخضاع الحشد لمكتب رئيس الوزراء. القواعد كانت صارمة، ومنها طلب التخلي عن الأسماء الحزبية (مثل بدر، العصائب، كتائب حزب الله)، وإغلاق المكاتب السياسية والاقتصادية للفصائل، وحصر الانتماء بالمؤسسة العسكرية. لكن الفصائل الكبيرة حافظت على استقلاليتها، ولعب أبو مهدي المهندس دورًا مركزيًا في إجهاض المحاولة بتحويل الموارد إلى الفصائل الولائية مث بدر والعصائب والكتائب. ومع انتفاضة تشرين 2019 واتهامات تورّط فصائل في القمع (مجازر السنك والخلاني، ظاهرة “المسلّحين المجهولين”) استقال عبد المهدي في ديسمبر/ كانون الأول 2019 وتضرّرت صورة الحشد شعبيًا.
-
حكومة مصطفى الكاظمي (2020–2022): تسلّم زمام الأمور بعد استقالة عادل عبد المهدي، بوصفه خيارًا مدعومًا غربيًا وخليجيًا لاحتواء نفوذ إيران. وحاول كبح الفصائل عبر عمليات أمنية استهدفت مجموعاتٍ مرتبطة بكتائب حزب الله، وسعى إلى ضبط الهيئة عبر القائد الجديد عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك) الذي تولى المنصب بعد اغتيال أبو مهدي المهندس في 3 يناير/ كانون الثاني 2020. لكنّه اصطدم بالفصائل واتُّهم بالانحياز لواشنطن. وفي انتخابات 2021 خسر تحالف الفتح مقاعد كثيرة (من 47 إلى 17 فقط)، لكن تأثير الحشد تواصل بفعل السلاح والشارع.
-
حكومة محمد شياع السوداني (2022–الآن): جاء بدعمٍ قوي من الإطار التنسيقي (الفتح وحلفاؤه)، وقد اعتُبِر “مرشّح الحشد الشعبي”، إذ حظي بمباركة هادي العامري وقيس الخزعلي ونوري المالكي. وحظي بغطاءٍ من العامري والخزعلي والمالكي. لم يُقلّص نفوذ الحشد بل عزّزه داخل مؤسسات الدولة، كما أعاد الفصائل بقوة إلى فصائل الدولة، حيث أحكمت السيطرة على الوزارات الاقتصادية والأمنية.
التمويل
منذ قانون 2016 الذي اعترف بالحشد كجزء من القوات المسلحة العراقية، صار له موازنة رسمية ضمن الموازنة العامة تُدار عبر رئاسة الوزراء.
ووفق تقارير رسمية، تضاعفت ميزانية الحشد الشعبي عدة مرات بين 2017 و2022، لتتجاوز 2 مليار دولار سنويًا. وتُدفَع الرواتب مباشرةً لعشرات آلاف المنتسبين (يُقدَّر العدد بأكثر من 160 ألف عنصر) على غرار الجيش والشرطة.
وفي الأرقام، بلغت مخصّصات الحشد الشعبي عام 2024 نحو 3.4 مليارات دولار؛ وارتفعت نسبة تمويل الحشد في الموازنة من 3.5 تريليون دينار في 2023 إلى 3.9 تريليون في 2024 (+11.4%).
وإلى جانب الموازنة، تتنوّع مصادر التمويل غير الرسمية:
-
السيطرة على منافذ حدودية (خصوصًا مع إيران وسوريا) واستخدامها في التهريب أو الجباية.
-
الاقتصاد الموازي: شركات أمنية، مقاولات، عقارات، وشبكات تهريب نفط ومخدّرات.
-
الضرائب غير الرسمية (“إتاوات”) على الشاحنات والمشاريع.
كما لعبت إيران دورًا محوريًا في تأسيس وتمويل وتسليح الفصائل منذ عام 2014، وشمل التمويل التدريب، والأسلحة، والرواتب الإضافية، والدعم اللوجستي، ويُدار عبر فيلق القدس.
العلاقة مع إيران
بعد تشكيل الحشد الشعبي، كانت إيران أول من استثمر هذا التطوّر؛ أرسلت مستشارين من فيلق القدس بقيادة قاسم سليماني، وساعدت في تنظيم وتسليح فصائل قائمة مثل منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله.
واستغلت إيران حالة الفوضى لتجعل الحشد الشعبي قوة تابعة لها موازية للجيش العراقي. وهذه الفصائل التابعة للحشد تُعرف باسم “الولائية” لأنها تعلن ولاءها لولاية الفقيه أي المرشد الإيراني علي خامنئي وقد دعمتها إيران من خلال شحنات أسلحة خفيفة وصواريخ إيرانية وصلت للعراق بطرق رسمية وغير رسمية.
واستُخدمت معسكرات تدريب في إيران، مع تركيز على حرب المدن والطائرات المسيّرة. وقد أشرف سليماني على معارك كبرى ضد تنظيم “الدولة” (جرف الصخر، وتكريت، والفلوجة، والموصل)، فقاتل الحشد بدعمٍ إيراني مكثّف، إلى جانب الشرعية التي حصل عليها في البرلمان العراقي حتى صار أداة نفوذ إيرانية ضد الأميركيين.
في 2020، وبعد اغتيال سليماني وأبو مهدي المهندس بضربةٍ أميركية قرب مطار بغداد، تعزّز الارتباط المباشر لفصائل الحشد الشعبي بفيلق القدس بقيادة إسماعيل قاآني. وخلال عامي 2021 و2022 كثّفت تلك الفصائل هجماتها الصاروخية والمسيّرة على قواعد أميركية، بأوامر إيرانية مباشرة.
وبين 2023 و2024، وبعد اندلاع حرب غزة، انخرطت فصائل مثل كتائب حزب الله وحركة النجباء ضمن “محور المقاومة”، وهاجمت مصالح أميركية في العراق وسوريا.
واليوم يُعدّ الحشد الشعبي قوةً عسكريةً متقدّمة تفوق الجيش العراقي في بعض المناطق، خاصةً على الحدود مع سوريا.
الضغوط الإسرائيلية
منذ 2019 تصاعدت ضربات استهدفت مواقع وقيادات مرتبطة بفصائل الشد الشعبي الموالية لإيران، داخل العراق وفي سوريا. وقد اتخذت هذه الضربات أشكالًا متعددة، من غارات جوية وهجمات بطائرات مسيّرة إلى تفجيرات في مخازن الذخيرة
في أواخر أغسطس/ آب 2019 استهدفت سلسلة انفجارات وهجمات مستودعات ذخيرة وقوافل تابعة لفصائل الحشد، وسُجّلت هجمات بطائرات مسيّرة قرب الحدود السورية، ما أثار شبهات قوية حول مسؤولية إسرائيل.
وفي أبريل/ نيسان 2024 وقع انفجارٌ كبير بقاعدة كالسو التي تُستخدم من قبل عناصر ضمن منظومة الحشد، وقيل إنه ناجم عن اشتعال مخازن ذخيرة وصواريخ، في حين تردّد أن الحادث جزء من سلسلة استهدافات إسرائيلية.
وفي 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 استهدفت غارةٌ مدينة تدمر السورية وأسفرت عن ضحايا من فصائل عراقية.
أمام استمرار هذا النمط، واجهت الحكومة العراقية ضغوطًا بين الدفاع عن السيادة وتجنّب التصادم العسكري المباشر مع إسرائيل أو إيران. وردّت بعض الفصائل بتغيير التكتيكات وزيادة الانتشار، بينما هددت أخرى بشنّ هجمات انتقامية على قواعد التحالف أو مصالح أجنبية. وتعزّزت أصواتٌ برلمانية ومجتمعية تطالب بحصر السلاح بيد الدولة، فيما تؤكد الفصائل أنها “حاجز” ضدّ إسرائيل.
ويتمثل الهدف الإسرائيلي المعلن عمليًا في إضعاف القدرات العسكرية واللوجستية لإيران ووكلائها في العراق وسوريا، خصوصًا قدرات نقل السلاح والتموضع قرب الحدود الإسرائيلية، ومنع ترسيخ “الممر البري الإيراني” من طهران إلى المتوسط، في وقت تزايد القلق من نشر صواريخ دقيقة بعيدة المدى داخل العراق. وتُفضّل إسرائيل “الضربات الخفية”، ي العمليات غير المعلنة فورًا، لتحقيق تأثيرٍ تكتيكي مباشر على حلفاء إيران الإقليميين، من دون فتح جبهة واسعة.
الموقف الأميركي
مع اندلاع الحرب ضدّ تنظيم “الدولة” عام 2014 قادت واشنطن التحالف الدولي، بينما نشأ الحشد الشعبي في الداخل؛ فظهر منذ البداية تناقضٌ استراتيجي واضح: الولايات المتحدة بحاجة إلى قوةٍ محلية فعّالة على الأرض لمواجهة التنظيم، لكنها ترى الحشد أداةً إيرانية تهدّد سيادة العراق ومصالحها الإقليمية.
ورغم هذا التناقض، لم تستطع الولايات المتحدة تجاهل الدور العسكري الكبير للحشد الشعبي في معارك الموصل وتكريت والفلوجة، لكنها في الوقت نفسه صنّفته تهديدًا طويل الأمد ما دام قوةً موازية للجيش العراقي يرسّخ النفوذ الإيراني داخل مؤسسات الدولة.
تُفرّق واشنطن في تصنيفها بين فصائل مرتبطة بالمرجعية الدينية في النجف أو بالدولة العراقية (تصفها بـ”المعتدلة”) وبين الفصائل الولائية (مثل كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، ومنظمة بدر) التي تُعدّها جماعاتٍ إرهابية مرتبطة بالحرس الثوري.
ورفضت الإدارة الأميركية تسليح الحشد أو التعامل المباشر معه، وحصرت دعمها العسكري والمالي بالجيش العراقي فقط. ومع صدور قانون دمج الحشد في القوات المسلحة عام 2018، ضغطت لتقليص نفوذه، فيما فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على قادةٍ وشبكات تمويل.
وشكّلت ضربة 3 يناير/ كانون الثاني 2020 قرب مطار بغداد، التي أدّت إلى مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، رسالةً صارمة مفادها أن واشنطن لن تسمح بتمدد النفوذ الإيراني داخل العراق، تبعتها هجمات متبادلة: قصف السفارة الأميركية وقواعد التحالف الدولي من جهة، وغارات أميركية محدودة استهدفت مواقع الحشد داخل العراق وعلى الحدود السورية من جهة أخرى، مع ضغط دبلوماسي لإعادة هيكلة الحشد ودمج الفصائل الموالية للدولة، مقابل إضعاف المجموعات الموالية لطهران.
ومع اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، انخرطت فصائل من الحشد في ما سُمّي “غرفة عمليات محور المقاومة”، حيث تصاعد استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا، وردّت واشنطن بغاراتٍ مركّزة على مواقع كتائب حزب الله وحركة النجباء.
وفي مطلع 2024 فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات إضافية على قيادات الحشد وشركات تمويل مرتبطة به، كما دعمت واشنطن حكومات عراقية تميل إلى التوازن السياسي، مثل حكومة مصطفى الكاظمي، بهدف تقليص نفوذ الحشد في القرار الأمني.
أما اليوم فتعلن واشنطن أنها تحترم إدماج الحشد ضمن القوات العراقية رسميًا، لكنها تعترض على استمرار الفصائل الولائية قوةً موازية خارج سلطة الدولة، وترى ذلك عقبةً أمام استقرار العراق واستقلال قراره السيادي.
اندماجٌ جزئي أم صراع نفوذٍ مستمر؟
يبقى السؤال: هل يتّجه الحشد إلى الاندماج الكامل داخل المؤسسات الرسمية أم سيستمر قوةً موازيةً مرتبطةً بالمحور الإيراني، مع استمرار استهدافه من إسرائيل؟
أصبح الحشد الشعبي جزءًا رسميًا من القوات المسلحة منذ 2016، لكن فصائل ولائية مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق والنجباء تواصل عمليًا الالتزام بتوجيهاتٍ إيرانية، ما يجعل سيطرة الدولة الميدانية محدودة. تتأثر آفاق الاندماج بعوامل داخلية (ثِقلٌ برلماني للفصائل، ضغطٌ شعبي ضد النفوذ الإيراني، محدودية قدرة الجيش على الضبط) وعوامل إقليمية (اعتبار إيران للحشد أداةً استراتيجية، مقابل تفضيل واشنطن وتل أبيب دمجه لضمان سيادة الدولة وتقليص النفوذ الإيراني).
السيناريو الأكثر احتمالًا هو الاندماج الجزئي: بقاء الحشد شكليًا ضمن الدولة مع احتفاظ فصائل ولائية بهوامش استقلالية. أمّا الاندماج الكامل فممكنٌ نظريًا لكنه ضعيف الاحتمال، ويتطلّب توافقًا سياسيًا داخليًا وضغطًا متزامنًا من واشنطن وطهران. وبقاء الولاءات الخارجية سيُبقي الحشد قوةً شبه مستقلة، ما يستدعي حلولًا سياسية لإضعاف التأثير الخارجي وتعزيز سيادة الدولة.
