![]()
تواصل إسرائيل تصعيد عملياتها الميدانية ضد لبنان، مع تكثيف سياسة الاغتيالات والاستهدافات التي تسفر يوميًا عن شهداء وجرحى ودمار.
وما كان لافتًا خلال الساعات والأيام القليلة الماضية تغيير إسرائيل معادلاتها وإستراتيجياتها الهجومية بدءًا باستهداف مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في مدينة صيدا جنوبي البلاد، مرورًا بالتوغلات داخل قرى حدودية وبناء جدار فيها، وصولًا إلى استهداف قوات اليونيفيل وأوامر الإخلاء التي أصدرتها لسكان مبان في قرى جنوبية تمهيدًا لعمليات القصف.
وترافق التصعيد الميداني الإسرائيلي مع ضغوط سياسية أميركية كبيرة على السلطات اللبنانية عنوانها نزع سلاح حزب الله.
وفي واقع الأمر لا تخفي واشنطن استيائها من أداء المؤسسة العسكرية اللبنانية في ملف نزع سلاح حزب الله، وكذلك أداء الحكومة حيال تنفيذ إصلاحات محددة تتعلق بقطع طرق التمويل عن الحزب.
وأبرز مظاهر توتر العلاقة بين الطرفين تجلت مؤخرًا في إلغاء زيارة قائد الجيش اللبناني رودولف هيكل إلى واشنطن، فضلًا عن تصريحات تصعيدية أدلى بها مبعوث البيت الأبيض توم براك وصف فيها لبنان بـ”الدولة الفاشلة”.
وفي مواجهة ضغوط ميدانية إسرائيلية متصاعدة، وأخرى سياسية أميركية، يجد لبنان نفسه في مأزق صعب يتطلب موازنة دقيقة بين أهداف عدة أبرزها الحفاظ على حالة السلم الأهلي، ومنع الانزلاق لحرب جديدة مع إسرائيل فضلًا عن إيجاد حلول مقنعة للخارج بشأن ملف سلاح حزب الله وسيادة الدولة.
تغير قواعد الاشتباك
وفي هذا الإطار، قال إمطانس شحادة، مدير برنامج دراسات إسرائيل في مركز مدى الكرمل، إن إسرائيل توضح عمليًا أن قواعد الاشتباك التي كانت قائمة منذ عام 2006 وحتى عام 2024 انتهت فعليًا.
وأضاف في حديث إلى التلفزيون العربي من استوديوهات لوسيل، أن إسرائيل كانت تعمل وفق عقلية الاحتواء والتحضير للمواجهة المقبلة، لكنها اليوم تقول إن هذا الواقع تغيّر.
وأشار شحادة إلى أن هناك رسائل إسرائيلية، فحواها أنها لن تسمح بإعادة ترميم قدرات حزب الله بأي شكل وفقًا للعقلية الأمنية الإسرائيلية الجديدة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أما الرسالة الثانية فهي أن إسرائيل تريد استكمال ما لم تُنهِه في الحرب على لبنان، من استهداف مقرات ومخازن ومستودعات أسلحة تابعة لحزب الله، بهدف استمرار حالة الحرب أو الشعور الدائم بوجودها وفق شحادة.
ورأى أن هذا يخدم الحكومة الإسرائيلية الحالية وكذلك المؤسسة العسكرية التي تريد استكمال ضرب قدرات الحزب والضغط عليه، وأيضًا الضغط على الحكومة اللبنانية للقبول بالشروط الإسرائيلية للتوصل إلى اتفاق سياسي أو وقف حرب حقيقي، ولكن وفق الرؤية الإسرائيلية.
ونوه شحادة إلى أن إسرائيل تمارس هذا الضغط العدواني يوميًا على حزب الله ولبنان والمخيمات الفلسطينية، بينما تُجري الإدارة الأميركية، عبر المبعوث الأميركي، ضغوطًا موازية على الحكومة والرئاسة في بيروت.
ومضى يقول: “يهدف كل ذلك، إلى دفع لبنان وحزب الله للقبول بالشروط الإسرائيلية التي تسعى إلى استباحة الأجواء اللبنانية واستمرار الاحتلال الإسرائيلي لمواقع جديدة في جنوب لبنان ومنع ترميم قدرات حزب الله على المدى المتوسط أو البعيد”.
ويرى شحادة أن إسرائيل، بعد الحرب الأخيرة على لبنان، لا تخشى مواجهة جديدة مع حزب الله، لأن الأثمان التي قد تدفعها تُعدّ “مقبولة” في الحسابات الأمنية الإسرائيلية، رغم قدرات حزب الله الحالية. وتعتقد إسرائيل أن القضاء الكامل على القدرات العسكرية للحزب يحتاج إلى عملية برية واسعة قد تصل إلى مناطق متقدمة جدًا داخل لبنان.
والأخطر، بحسب شحادة أن إسرائيل بدأت تحضير وحشد الرأي العام الإسرائيلي لهذا السيناريو، ففي الشهر الأخير، تصاعدت التقارير العسكرية والتسريبات الحكومية حول إعادة حزب الله بناء قدراته العسكرية، ونجاحه في التجنيد وإدخال السلاح والأموال إلى لبنان رغم القصف والحظر. وبهذا تبني إسرائيل رأيًا عامًا بأن الحرب السابقة لم تُحقق أهدافها، ويمكن استكمالها بحرب جديدة.
ويضيف شحادة أن إسرائيل تمارس ضربات يومية داخل العمق اللبناني وتجاه الجنوب والمخيمات الفلسطينية لأن لا شيء يردعها اليوم. فقد انتهت معادلة الردع المتبادل، بحسب قوله، وعاد الوضع إلى ما يشبه ما قبل عام 2000 حين كانت إسرائيل تتحرك بحرية داخل الأجواء والأراضي اللبنانية.
وختم شحادة بالقول إن كل الظروف والمتغيرات تشير إلى أن إسرائيل تتجه إلى تصعيد جديد أمام حزب الله ولبنان ربما في الأشهر المقبلة، فالحرب من منظور إسرائيلي لم تنته بعد، وإسرائيل تستعد لاستئنافها لاستكمال تحقيق أهدافها.
مرحلة تسخين
من جانبه، قال جوني منيّر، الكاتب والباحث السياسي، إن إسرائيل رفعت من مستوى ضغوطها العسكرية بالتوازي مع الضغوط السياسية الأميركية. فمنذ قرار وقف إطلاق النار قبل نحو عام، نفّذت إسرائيل عمليات اغتيال عبر المسيّرات، لكن في الأسبوعين الأخيرين، وبالتزامن مع التهديدات الصادرة عن القيادات العسكرية ورئيس الحكومة الإسرائيلية والصحافة العبرية، بدأت نمطًا جديدًا من الاستهدافات.
وأضاف منيّر في حديث إلى التلفزيون العربي من بيروت، أن إسرائيل استعادت اللغة العسكرية التي استخدمتها خلال الحرب والتي تطلب من السكان الرحيل والابتعاد، فيما يقوم سلاح الجو بشنّ غارات شديدة وعنيفة.
وأردف “بالأمس، توسّعت العمليات إلى مخيم عين الحلوة، وهو هدف لم يكن مدرجًا منذ انتهاء الحرب، ما يشير إلى أن إسرائيل تتجه نحو تصعيد متكرّر ومتسارع يخلق مزيدًا من الضغوط السياسية الأميركية”.
وبرأي منيّر، فإن الرسالة الأوضح جاءت من واشنطن عبر إلغاء زيارة قائد الجيش اللبناني إلى واشنطن وهو أمر يحصل للمرة الأولى في تاريخ العلاقة بين الجيشين اللبناني والأميركي، إذ كانت واشنطن تعتبر مؤسسة الجيش اللبناني الأقرب إليها في لبنان. وهذا الإلغاء يحمل اتهامًا ضمنيًا للقيادة السياسية اللبنانية، وللجيش، بالتباطؤ في تنفيذ المطلوب.
وأشار منيّر، إلى أن المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين حمّلوا الجيش اللبناني مسؤولية “التباطؤ” وضرورة الذهاب نحو نزع سلاح حزب الله كليًا من دون التفريق بين جنوب الليطاني وشماله.
وتابع “كما دفعوا باتجاه مقترحات طرحت مؤخرًا في لجنة الميكانيزم، تقضي بمداهمة كل المنازل الواقعة جنوب الليطاني، ما يعني أن لبنان يتجه نحو تسخين شديد، وحماوة متزايدة بسرعة، بين الضغط العسكري الإسرائيلي والتصعيد السياسي الأميركي”.
وبيّن منيّر، أن القيادة المركزية الأميركية كانت تُصدر سابقًا بيانات تشيد بالجهد الكبير الذي بذله الجيش اللبناني جنوب الليطاني، وكذلك رئيس لجنة الميكانيزم الأميركي كان يثني على خطوات الجيش، لكن مؤخرًا بدأ يظهر خطاب مغاير.
وأضاف أن الحكومة اللبنانية أعلنت أنها أنجزت نحو 85% من عملية نزع السلاح جنوب الليطاني. وكشف أن الجيش وضع يده قبل أسبوعين على نفق تابع لحزب الله وصادر محتوياته، لكنه لا يعلن ذلك إعلاميًا.
ولفت منيّر، إلى أن المشكلة الأساسية المتبقية تتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية، فإسرائيل، رغم خروقاتها اليومية لم تنسحب سنتيمترًا واحدًا من الأراضي اللبنانية في المواقع الخمسة المتنازع عليها.
وأشار إلى أن إسرائيل تقوم ببناء الجدار الإسمنتي العازل داخل الأراضي اللبنانية، وقد أكدت اليونيفيل رسميًا حصول هذا الخرق، معتبرةً أنه اعتداء على السيادة اللبنانية. وبعد هذا البيان مباشرة، وقع استهداف قوة من اليونيفيل، وجرى الادعاء بأن دبابة إسرائيلية أخطأت لكن احتمال الخطأ لا يتجاوز 1%، ما يجعله خطأً متعمّدًا ورسالة استياء من بيان اليونيفيل.
وأضاف أن بيانات اليونيفيل خلال الأسابيع الماضية تحدثت بشكل متكرر عن الخروقات الإسرائيلية المتزايدة، ما يعني أن المسألة ليست مجرد خطأ. وإذا جُمعت كل هذه المؤشرات، يمكن رؤية أن هناك تحضيرًا لشيء ما.
وأكد منيّر أن القول إن الجيش اللبناني لم يؤدّ واجبه “غير صحيح”، فالجيش قدّم 12 شهيدًا خلال نقل الأسلحة والذخائر بوسائل بدائية، رغم غياب أي دعم أو تزويد بمعدات جديدة تساعده على أداء مهماته، ما اضطره للعمل عبر اللحم الحي، على حد تعبيره.
ضغط أميركي
بدوره قال توماس واريك، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق وكبير المستشارين في المجلس الأطلسي في واشنطن، إن الولايات المتحدة نفد صبرها بسبب عدم إحراز تقدّم، ولا سيما من جانب الجيش اللبناني في بسط سيطرة الدولة، وهو أمر كان يفترض أن يتحقق منذ عام 2006، أي منذ 19 عامًا بعد صدور القرار 1701، وكذلك منذ وقف إطلاق النار قبل أكثر من عام.
وأضاف واريك في حديث إلى التلفزيون العربي من واشنطن، أن سلسلة الزيارات التي قام بها مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترمب كانت تهدف إلى الضغط لإحراز تقدّم فعلي.
لكن واشنطن وفق واريك لاحظت أن الأمور لا تسير في الاتجاه المطلوب.
وأشار واريك إلى أن الولايات المتحدة تعتقد أن الضغوط هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى نتائج، ولذلك نرى نوعًا من تخفيف القيود عن إسرائيل، لأن واشنطن تعتبر أن المؤشرات الحالية ليست إيجابية بل سلبية، وإذا استمر الوضع كذلك فستتاح لإسرائيل فرص أخرى لاستهداف عناصر حزب الله داخل لبنان.
وأكد واريك أن الوضع سيكون أقل خطورة إذا تقدّم لبنان في مسار بسط سلطة الدولة عبر القوات المسلحة. ففي هذه الحالة، يمكن فرض قيود أكبر على إسرائيل.
ومضى واريك يقول “واشنطن ترى أن الخطر الأكبر يكمن في استمرار وجود حزب الله في المناطق التي لا يفترض أن يكون موجودًا فيها جنوب لبنان، وفي غياب أي تقدّم بخصوص نزع السلاح”.
وختم واريك بأن “واشنطن تنظر إلى الوضع بعين القلق، ولهذا جاء قرار إلغاء اجتماعات قائد الجيش اللبناني في واشنطن، لأن الإدارة الأميركية لم تتلق أي إشارات تفيد بأن حزب الله سيبدأ فعلًا في نزع سلاحه”.
