![]()
تهرب شيماء عيسى “إلى الماضي من وجع الحاضر”، كما تقول.
تهرب إلى ضفائر تلك الطفلة التي كانتها عندما اقتحمت قوات الأمن التونسية بيت عائلتها، واعتقلت والدها عيسى إبراهيم من حضن أطفاله وزوجته.
كان ذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني 1990، عندما كانت شيماء في العاشرة من عمرها.
بعد ذلك بنحو خمسة وثلاثين عامًا، وفي الشهر نفسه، اختطف ملثمون تابعون للأمن التونسي المعارضة شيماء عيسى خلال مشاركتها، السبت الماضي (29 نوفمبر)، في مظاهرة تطالب بالحريات في البلاد.
ووثّقت مقاطع فيديو انتشرت على نطاق واسع امتناع رجال الأمن عن إظهار هوياتهم أو التعريف بأنفسهم شفهيًا قبل اعتقال الناشطة عيسى.
قبل ذلك بيوم واحد، وتحديدًا في 28 نوفمبر الماضي، أصدرت محكمة الاستئناف التونسية حكمًا بسجن شيماء عشرين عامًا، في قضية التآمر على أمن الدولة التي حُكم فيها نحو أربعين معارضًا تونسيًّا بالسجن لمدد تصل إلى 45 عامًا.
وبالتزامن مع اعتقال شيماء، نشرت “المفكرة القانونية“، وهي منظمة غير ربحية تُعنى بحقوق الإنسان، على موقعها ما عنونته بـ”ورقات من حياة ابنة سجين انتماء: ذكريات شيماء عيسى”.
شيماء عيسى.. وجرح اعتقال الأب
تسرد شيماء في “ورقاتها” هذه بعضًا من ذكرياتها عن اعتقال أبيها في تسعينيات القرن الماضي، بتهمة الانتماء إلى “الاتجاه الإسلامي” (حركة النهضة) الذي كان ملاحقًا في حقبة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (1987-2011).
وتزامن نشر “المفكرة القانونية” مقاطع من ذكريات شيماء عيسى مع الأحكام القضائية التي صدرت في قضية التآمر على أمن الدولة، وتسرد فيها شيماء وقائع اعتقال والدها، وتصف في مُفتتحها مشاعرها إزاء ما سيصبح الحدث الجلل والمفصلي في حياتها كلها، قائلة:
في ساعة متأخّرة من ليلة 16 نوفمبر 1990، اهتزّ سطح دار كائنة في نهج ضيّق من حي باب جديد من وسط العاصمة تونس، وعلت جُلبة أمام بابها الذي ظنّه أهل الدار سترًا لهم، ووصل لمن في داخلها صوت أجش يردّد غير عابئ بحق النيام: (عيسى اخرج فيسع، حانوتك كلّاتو النار).
دقائق واقتحمت أرجل راكضة المنزل، فداست إحداها ضفيرة شعر تدلّت أرضًا لطفلة عمرها عشر سنوات، تنام فوق حَشِيَّة تتوسّط غرفة صغيرة بها ثلاث أرائك، على كلّ واحدة منها ينام شقيق لها.
فتحت عينيها بصعوبة، وقالت وقد أبكاها الألم وأرهبتها الجلبة: “عمّي عفست على شعري.. وجعتني”.
أجاب من لم ترَ منه إلّا عصا غليظة تحملها يده الممدودة “تخمد أرقد مش ناقصينك”.
اختبأت تحت الغطاء الثقيل فعمّ الظلام عالمها.
تكتب شيماء عيسى بإسهاب وقائع تلك الليلة، ومنها قيام أمها وجدتها بالوقوف على باب البيت وهما تناديان: “عيسى.. عيسى”، الزوج والابن والأب الذي غُيِّب، ولكن ليس ثمة من “مجيب غير الصدى تردّده جدران المدينة النائمة”.
فمن هو عيسى؟
تصفه ابنته شيماء، التي ورثت عنه حبّها للرسم الذي درسته في بلادها وفي روما عندما كبرت، على النحو الآتي:
عيسى ذاك، كان يُعرَف في أسواق العاصمة تونس بأنه رسام وبائع تحف يُقصَد دكانه من كل صوب، وهو كما يقال عنه بالحيّ، متديّن يحضر حلقات النقاش التي كانت تقام بالجامع وفي غير ذلك. ضحوك طيّب المعشر يسعى له أصدقاؤه لما في مجالسته من فرصة للترويح عن النفس في رُقي.
يخلّف اعتقال الأب حزنًا عميقًا في قلوب الأبناء، ويرافق شيماء وشقيقتها في طريقهما إلى المدرسة في اليوم التالي. وتسرد شيماء الناضجة حالة الإنكار التي هيمنت على شيماء الطفلة آنذاك؛ لا تريد أن تصدّق أنّ أباها اعتُقل، “هو سافر خارج البلاد وسيعود”.
وعندما تخبرها شقيقتها أنهم “كانوا كثيرين”، قائلةً: “رأيتهم يدخلون غرفة أبي ويجرّونه خارجها. خفت كثيرًا وتظاهرت بالنوم. هل تعلمين إلى أين أخذوا أبي؟ صديقتي درّة اختطفوا قبل أسبوع والدها“، تردّ عليها بغلظة، فهو سيعود. “سافر إلى الخارج ليس أكثر“.
يبدو الاعتقال جرحًا مفتوحًا في حياة تلك الطفلة التي لا تبلّغ عائلتها رسميًا بعد شهر ونصف الشهر من اختفائه أنه “موقوف على ذمة محكمة عسكرية”.
تتوقف سيارة أمام منزل العائلة وينزل منها رجل أمن بزي رسمي، ويطلب من الأم التوقيع على محضر يفيد أن زوجها موقوف، ما أدخل ما سمّته شيماء في ذكرياتها “فرحة حزينة” إلى بيت العائلة أخيرًا.
لكن، ماذا فعل الأب ليُعتقل؟
تروي شيماء ما أخبرتهم به الجدة آنذاك؛ فهو لم يقترف أي ذنب، و“كلّ ما يُنسب إليه أنّه انتصر لدينه وبلده“، ما يوجب على شيماء وشقيقاتها الفخر بحسب الجدة.
تعذيب السجناء.. وتفتّح الوعي
لم يكن الاعتقال وحده ما تتذكره شيماء، بل ذلك الحدث الذي غيّر حياتها، وأبدل خوفها شجاعة في الدفاع عن العدالة سترافقها طوال عمرها.
في شتاء 1991 تتظاهر زوجات السجناء وأمهاتهم وبناتهم احتجاجًا على منعهن من زيارة ذويهن الذين انتفضوا رفضًا لتعذيبهم، مطالبين بمعاملة لائقة في السجون، فما كان من إدارة السجن إلا أن أطلقت الكلاب عليهم في السجن وفرّقتهم بالقوة، ومنعت ذويهم من زيارتهم.
تغضب النساء، كما تروي شيماء، ويسرن في مسيرة عفوية وغاضبة بمعية أطفالهن إلى “باب سعدون”، حيث مقرّ المحكمة العسكرية، لإيصال أصواتهن رغم الحواجز وكثافة رجال الأمن.
كانت تلك، وفقًا لشيماء، أول مظاهرة تشارك فيها، كما كانت المرة الأولى التي يغادرها فيها خوفها المقيم بعد اقتحام بيت عائلتها واختطاف والدها.
تهرب شيماء التي أصبحت ملاحقة مثل والدها “إلى الماضي من وجع الحاضر”، فتجد تلك الطفلة التي دقّ رجال الأمن باب بيتهم ليسلّموا أمّها استدعاءً للحضور أمام القاضي، فيشيع الخوف في البيت من أن تلتحق الأم بالأب وراء القضبان وتترك أبناءها للمجهول.
وفي مفارقة تشير إلى أن تواصل القمع في تونس يجعل حاضرها امتدادًا لماضيها، تسرد شيماء وقائع مثولها بعد نحو عقدين ونصف العقد من تلك المظاهرة أمام قاضٍ عسكري، ورفضها أن تُحاكَم بصفتها مدنية أمام محكمة عسكرية.
تقول إن أحد المحامين الذين كانوا معها (فتحي الغربي) خاطب القاضي آنذاك قائلًا إنه رافع في بداية التسعينيات، في مكتبه هذا نفسه، عن والدة شيماء في تهمة ظالمة (الاعتداء مع المتظاهرات على أحد رجال الأمن في مظاهرة 1991)، وهو حاضر الآن بعد كل هذه السنوات، مع زملائه أمام القاضي نفسه، وفي مكتبه ذاته، للدفاع هذه المرة عن الابنة “المتّهمة بالدفاع عن الحرية”.
شاعرة ورسامة وصحافية
ترك اعتقال الأب بتهمة الانتماء للحركة الإسلامية في تونس ندوبًا عميقة في روح شيماء عيسى، ما يفسّر أمرين: الأول توجهها إلى الشعر والرسم والصحافة للتعبير عن نفسها، والثاني إحساسها العالي بالظلم ودفاعها غير المشروط عن العدالة.
فرغم انتمائه إلى الاتجاه الإسلامي في تونس، كان والد شيماء، عيسى إبراهيم، رسّامًا وتاجر تحف، ما جعل ابنته تنشأ في بيئة مسيّسة قدر ما هي متصلة بالفنون وأخيلتها.
ويروي والدها أنها كانت تأتيه في طفولتها وتقول إنها ستحدثه باليابانية أو الفارسية أو الروسية وسواها من لغات، ثم تنطق كلمات غير مفهومة وهي تنظر إليه.
ويقول: “بفضل ذلك الكلام أصبحت شيماء شاعرة”.
ولدت شيماء في العاصمة التونسية عام 1980 لهذا الخليط “المشوّش” و”المعقّد” من الأيديولوجيا والفنون، ما وسم شخصيتها لاحقًا، ودفعها لمحاولة المواءمة بين المتناقضات، وإذا تعذّر الأمر القفز من فوقها للتركيز على الإنسان، بغضّ النظر عن آرائه أو معتقداته.
فابنة الإسلامي التي درست العلوم الشرعية في المعهد العالي لأصول الدين، ونالت شهادة الماجستير من الجامعة الزيتونية لاحقًا، هي نفسها ابنة الرسّام أيضًا، ما جعلها تدرس الرسم في تونس وروما، وتتحرك على الحدود الفاصلة بين الأحزاب دون الانضواء في صفوفها، وخاصة “حركة النهضة” التي كان والدها ينتمي إليها.
هذا المسار جعلها أقرب إلى الأحزاب والتجمعات السياسية غير الأيديولوجية (ذات التوجه الليبرالي غالبًا)، لا بفعل جاذبية شعاراتها الليبرالية، بل بسبب معارضتها القمع السياسي الذي طال أسرتها عندما كانت طفلة.
انضمّت شيماء لفترة قصيرة إلى حزب “التحالف الديمقراطي”، ثم وجدت نفسها تنخرط في النضال النسوي، قبل أن تجد نفسها عام 2021، مثل كثير من مواطنيها، أمام انقلاب الرئيس قيس سعيّد على العملية السياسية في البلاد التي أوصلته إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع.
فانضمّت إلى فريق التأسيس لحملة “مواطنون ضد الانقلاب“، ثم إلى “جبهة الخلاص الوطني” التي تضم طيفًا واسعًا من أحزاب المعارضة والمستقلين الرافضين لسياسات الرئيس سعيّد.
في كل هذا، كانت تسعى إلى المواءمة بين ما يبدو متناقضًا للوهلة الأولى، وربما كان ذلك نزوعًا طوباويًا، شعريًا، من تلك الطفلة التي روّعها القمع السياسي، ولم تملك وسيلة للدفاع عن نفسها في وجهه سوى صوتها.
أصدرت شيماء عيسى عدة مجموعات شعرية، ورغم ذلك لم تكن جزءًا أساسيًا من التيار الشعري التونسي العريض والمكرّس.
ومن دواوينها “بيانو الجمعة” عن دار الجيل في بيروت عام 2006، و”مقامات لأرجوحة الموت” عن منشورات كارم الشريف في تونس عام 2013، إضافة إلى رواية غير منشورة، وكتاب “الجندر والنسوية والدين: في إشكاليات خطاب قضايا النساء” الذي صدر عام 2020.
لكن ما هو الوطن في شعرها؟
الوطنُ صرخة
نسيتْ ساقيها الجميلتين
في الوحل والدماء.
الوطن
ظمأً
يقفز فوق سحابة عشب تائهة
لم يكن الوطن أبداً
قاموس السلم أو الحرب
الوطن كان حين لم تكن اللغة
الثورة لم تنتصر يوماً
خارج أسوار القصيدة
هكذا قال الوطن.
محطات رئيسية.. من الشعر إلى السجن
-
عام 2014 ترشّحت للانتخابات التشريعية عن حزب “التحالف الديمقراطي”، لتصبح أول شاعرة تونسية ترشّح نفسها إلى البرلمان.
-
في فبراير/ شباط 2023 أوقفت السلطات شيماء عيسى، بالإضافة إلى عشرات المعارضين، في أكبر موجة اعتقالات في عهد الرئيس قيس سعيّد، بتهمة “التآمر على أمن الدولة”.
اعتُقلت شيماء في 22 من ذلك الشهر، بعد محاصرة سيارتها التي كانت تقودها في أحد شوارع العاصمة، من قبل عدة سيارات سوداء تابعة للأمن التونسي.
ويروي مقرّبون منها أنها بادرت رجل الأمن الذي قام باعتقالها بالقول آنذاك:
“أنا شيماء عيسى، وأعلم أنكم ستوقفونني، فلماذا كلّ هذا العدد من الأمنيين، وكلّ هذا الاستعراض على مرأى الجميع؟” -
في يوليو/ تموز 2023 أُطلِق سراح شيماء في انتظار محاكمتها.
-
في ديسمبر/ كانون الأول 2023 أصدرت محكمة عسكرية حكمًا بسجن شيماء لمدة عام مع تأجيل التنفيذ، بعد إدانتها بـ”إتيان أمر موحش” ضد الرئيس قيس سعيّد في تصريحات إعلامية، بحسب محاميها.
إلى أين تهرب شيماء من وجع الحاضر؟
كتبت المحامية دليلة بن مبارك مصدّق، شقيقة المعارض جعفر بن مبارك، أحد أبرز قادة “جبهة الخلاص الوطني”، على فيسبوك قائلة إن “الدائرة الجنائية بالمحكمة العسكرية” أصدرت حكمًا ابتدائيًا بسجن شيماء عيسى مدة 6 أشهر من أجل “تحريض الجيش على عدم الامتثال للأوامر”، و4 أشهر من أجل “إتيان فعل موحش”، في إشارة إلى الإساءة للرئيس، وشهرين من أجل “نشر الإشاعات”، مع تأجيل التنفيذ في كل العقوبات.
وأضافت:
“هكذا تُحاكَم حرية التعبير في هذا البلد، أو ما تبقّى من هذا البلد. سنستأنف الحكم والنضال من أجل حريتنا في التفكير والتعبير والفعل السياسي، ولن نتراجع عن ذلك مهما كان الثمن”.
يبدو أن الثمن كان باهظًا في حالة شيماء عيسى؛ ففي 28 نوفمبر 2025 صدر الحكم بسجنها 20 عامًا، بالإضافة إلى صدور أحكام بسجن نحو 37 معارضًا تونسيًا.
إلى أين تهرب شيماء والحال هذه من وجع الحاضر؟
ربما إلى وجع الماضي مجدّدًا أو فضاءات الشعر.
