![]()


ربما يعرف معظم الناس عددا من القادة الذين عادوا من التقاعد عقب اندلاع الحرب في الخامس عشر من ابريل 2023. وارتدوا بزاتهم العسكرية مجددا وسلموا أنفسهم للجيش ليضعوا خبراتهم تحت تصرف القيادة في واحدة من أصعب المراحل في تاريخ البلاد.
من بين هؤلاء الفريق آدم هارون نائب رئيس الأركان الأسبق لشؤون العمليات، الذي التحق بمجمع كرري العسكري مستشارا عسكريا، مقدما خبراته الطويلة للقيادة العليا. وفي بحري، تسلم اللواء بحر أحمد بحر قيادة العمليات هناك، ليقود الدفاعات في ظروف بالغة القسوة. وبفضل حنكته العسكرية، تحولت العمليات من الدفاع إلى هجمات محدودة، مكنت القوات من الوصول إلى نقاط متقدمة الأمر الذي ساعد في تقليص المسافة أمام متحركات أم درمان التي التحمت لاحقا مع قواته وأسهمت في فك الحصار عن القيادة العامة في يناير 2025.
أما اللواء حينها نصر الدين عبد الفتاح، فقد أعيد إلى منصبه السابق قائدا لسلاح المدرعات. وتمكن من صد موجات متتالية من هجمات قوات الدعم السريع، قبل أن يقود الهجوم المضاد الذي أسفر عن فك الحصار عن القيادة العامة عبر أحد المحاور.
وبينما حظي الفريق نصر الدين عبد الفتاح بالتقدير على جهوده، فتمت ترقيته إلى رتبة الفريق قبل إحالته إلى التقاعد، كان نصيب رفيقه السابق في ذات السلاح، اللواء عثمان سراج، مختلفا تماما. فالرجل الذي لبى نداء الواجب وهو بالمعاش، لم يكافأ على عطائه بل وجد نفسه في موقع من يحمل أوزار الإخفاقات.

اللواء عثمان إسماعيل سراج، أحد ضباط الدفعة (39) بالكلية الحربية، من منطقة شطايا بجبل مرة، وينحدر من قبيلة الفور.
بعد استشهاد قائد الفرقة اللواء ياسر فضل الله ياسر تولى العميد وقتها حسين جودات قيادة الفرقة وظل يقود العمليات هناك فترة طويلة حتى إصابته، وعند سقوط الفرقة في ايدي الدعم السريع في اكتوبر 2023 ساهم عثمان سراج مع بقية ضباط الفرقة بسحب بقية القوات الى بابنوسة.
عرف سراج بذكائه وكفاءته وثقافته العالية وإتقانه للّغة الإنجليزية بطلاقة.عمل ملحقا عسكريا في الهند وضابطا في سلاح المدرعات، وتدرج في المناصب حتى أصبح في منصب نائب قائد سلاح المدرعات برتبة عميد خلفا للعميد آنذاك عبد الباقي بكراوي، عندما أُوقف الأخير على خلفية انتقاده لقوات الدعم السريع في عام 2019.
ترقى سراج إلى رتبة لواء وتم نقله إلى فرع الإدارة العامة حيث تولى رئاسة لجنة اختيار الطلبة الحربيين في الكلية الحربية. وبعد أن أنهى إجراءات اللجنة ورفع توصياتها، فوجئ بقرار إحالته إلى التقاعد دون إنذار مسبق.
عندما اندلعت الحرب بتمرد قوات الدعم السريع، في 15 ابريل 2023 كان في مسقط راسة بشطايا لم يتردد عثمان في الالتحاق بالفرقة 16 مشاة في نيالا وعاش مع جنود وضباط الفرقة 16 الذين ظلوا يقاتلون على مدى 194 يوما وبشكل متواصل دون أن يصلهم إمداد حيث صدوا هجمات لآلاف المسلحين القبليين وجنود الدعم السريع.. وبعد استشهاد قائد الفرقة اللواء ياسر فضل الله ياسر تولى العميد وقتها حسين جودات قيادة الفرقة وظل يقود العمليات هناك فترة طويلة حتى إصابته، وعند سقوط الفرقة في ايدي الدعم السريع في اكتوبر 2023 ساهم عثمان سراج مع بقية ضباط الفرقة بسحب بقية القوات الى بابنوسة.
لاحقا عاد إلى بورتسودان للإقامة مع أسرته، لكن إشادة جودات بدوره البطولي في نيالا أن ثبات فرقة نيالا وصمودها يعود إلى كفاءة اللواء سراج. فاستدعاه البرهان شخصيا، وأصدر قرارا بإعادته إلى الخدمة مرة اخرى.
في تلك الاثناء استشهد قائد الفرقة 17 سنجة اللواء أيوب عبد القادر في سلاح المدرعات بالخرطوم. تلقى اللواء عثمان سراج اتصالا من رئيس الأركان يبلغه بتكليفه بتولي قيادة الفرقة خلفا لأيوب.
لقد كان اختراق حميدتي للجيش واستمالته لعدد من الضباط أمرا بالغ الخطورة ومع ذلك لم يستدع ذلك حتى مجرد دق ناقوس الخطر ولم يفتح أي تحقيق لمعرفة حجم هذا الاختراق ومدى انتشاره
عند وصوله، وجد أن الوضع متدهور للغاية: سبع عربات قتالية فقط صالحة للخدمة، والبقية معطلة. فاللواء د. ربيع عبد الله الذي كان قائدا متقدما في سنار، كان قد أخذ معظم القوة والعربات معه، وكذلك فعل اللواء أيوب عندما انتقل بقواته إلى سلاح المدرعات في الخرطوم.
أعد اللواء سراج تقريرا مفصلا إلى القيادة، شرح فيه ضعف القدرات القتالية، وفي يوم سقوط سنجة كان اللواء عثمان سراج مع بقية قادة الجيش وحكومة الولاية في استقبال البرهان عند زيارته لمدينة سنار. وقبل أن يعود كانت الساعة قد اقتربت من الخامسة مساء حين سقطت الفرقة.
لكن سراج لم يستسلم عاد مباشرة والتحق بـ اللواء 67، وتمكن من استعادة مواقع داخل سنجة، (بحسب شهادة اللواء طارق الريح كان مدير شرطة سنجة وقتها).
وبينما كانت قوات الدعم السريع تهاجم بعنف رفض سراج الانسحاب وحين وصلت تعزيزات كبيرة للدعم السريع وتحت ضغط الموقف اضطر للانسحاب باتجاه الفاو، بدأ سراج في إعادة تجميع ما تبقى من قواته لكن سرعان ما تلقى اتصالا من أحمدان محمد خير، مدير فرع العمليات الحربية، أبلغه فيه بقرار وضعه قيد الإيقاف. وانه المتسبب في سقوط سنجة !!
سأل سراج عن الجهة التي سيحال إليها، فأبلغ بأنها سنكات. هناك، استقبله قائد الفرقة (12) اللواء حاتم حسن الطيب، الذي استضافه داخل مقر الفرقة مع أسرته.
لم تشكل لعثمان سراج لجنة تحقيق أو مجلس محاسبة ولم تكن هيئة قيادة الجيش لتجرؤ على ذلك فالقاصي والداني يعلم ان المتسبب في سقوط مدينة سنجة تعليمات القيادة بسحب جميع القوات لتأمين زيارة البرهان لمدينة سنار المجاورة ونشر قوات سنجة في محيط دائرة قطرها خمسة كيلومترات ما ترك المدينة مكشوفة أمام هجوم الدعم السريع.
تسارع قيادة الجيش في تشكيل لجان التحقيق لمساءلة ضباط صغار على مخالفات ثانوية لا تمس جوهر الأزمة وتبقى هيئة القيادة العليا للجيش بمنأى عن أي مساءلة وفوق المحاسبة رغم الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها والتي أضعفت الجيش ومكنت قوات الدعم السريع من التمدد والتغول على مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية.
احيل عثمان سراج للتقاعد للمرة الثانية وفي حلقه غصة مثل عشرات الضباط الذين حملتهم هيئة الاركان وزر الخطايا والاخفاقات بينما هم فوق المحاسبة
احيل قادة متحركات للتقاعد وهم في خطوط المواجهة امثال العميد ركن عبد التواب الامين ابراهيم وقائد اللواء 18 مشاة النهود العميد المغيرة مبارك علي بابكر والعميد جعفر محمد أبكر حامد قائد متحرك الفاو والمقدم عمار كمال حسن موسى الذي سحب الدبابات من كرب التوم رغم الهجوم عليه ب300 عربة من الدعم السريع في مشهد مشابه يعيد للاذهان ما حدث للضباط امثال لطفي تربال وفريحة الذين صدرت برقيات احالتهم للتقاعد في اللحظة التي كانوا بالخطوط الامامية وقد استعادوا فيها مدينة توريت في عهد نظام البشير.
تسارع قيادة الجيش في تشكيل لجان التحقيق لمساءلة ضباط صغار على مخالفات ثانوية لا تمس جوهر الأزمة وتبقى هيئة القيادة العليا للجيش بمنأى عن أي مساءلة وفوق المحاسبة رغم الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها والتي أضعفت الجيش ومكنت قوات الدعم السريع من التمدد والتغول على مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية.
لقد كان اختراق حميدتي للجيش واستمالته لعدد من الضباط أمرا بالغ الخطورة ومع ذلك لم يستدع ذلك حتى مجرد دق ناقوس الخطر ولم يفتح أي تحقيق لمعرفة حجم هذا الاختراق ومدى انتشاره، رغم أن اللواء أيوب عبد القادر (تقبله الله مع الشهداء) جاء بنفسه إلى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وأخبره أن حميدتي عرض عليه خمسة عشر مليارا، فما كان من البرهان إلا أن أجابه: “هذا رزق ساقه الله إليك”، وكأنها إشارة ضمنية لبقية الضباط بأن قبول أموال حميدتي أمر لا يعيب، بل هو مباح برضا القيادة نفسها. والاختراق وصل هيئة الاركان نفسها.
لم يحقق البرهان ولا هيئة القيادة في حصول قوات الدعم السريع على أجهزة تنصت وتجسس إسرائيلية وصلت عبر مطار الخرطوم في مايو 2022، أي قبل عام كامل من اندلاع الحرب، وهي الأجهزة التي انفرد موقع “مونتي كاروو” بنشر تفاصيلها قبل أن تؤكدها الصحف الإسرائيلية بعد ستة أشهر، مضيفة أن الشحنة وصلت بشكل سري على متن طائرة يملكها مسؤول سابق في جهاز الموساد الإسرائيلي، وأن قوات الدعم السريع تسلمتها مباشرة. هذه الأجهزة، المصنعة داخل الاتحاد الأوروبي بحسب صحيفة هاآرتس قادرة على قلب ميزان القوى في السودان لصالح حميدتي، إذ يمكنها اختراق أنظمة “أندرويد” و”آيفون” والبنى التحتية لشبكات الاتصالات، ومع ذلك لم يحرك البرهان ساكنا ولم يعتبر الأمر اختراقا للأمن القومي يستوجب التحقيق والمساءلة وقد استخدمت هذه الاجهزة بالفعل لاحقا في التجسس والتنصت على المكالمات والاتصالات بين قيادة الجيش ووحداته العسكرية وكشف خطط الجيش أثناء الحرب الأخيرة.
لم يحقق البرهان في حصول الدعم السريع على أسلحة نوعية مثل صواريخ الكورنيت المضادة للدروع، رغم أن شحنات هذه الأسلحة وصلت عبر طائرة مدنية قادمة من الإمارات في 17 نوفمبر 2022، وضبطتها سلطات جمارك مطار الخرطوم، لكن البرهان نفسه هو من أمر بتسليمها للدعم السريع بدلا من مصادرتها، وقد استخدمتها قوات الدعم السريع في تدمير دبابات الجيش في الحرب الأخيرة.
لم يسأل أحد عن سبب رفض الدعم السريع – وهي قوة يفترض أنها مساندة للقوات المسحة وفق القانون – إعادة مدرعات الجيش من قاعدة الزرق، بل إن حميدتي جلبها إلى الخرطوم تحت سمع وبصر هيئة القيادة قبل أسابيع من الحرب، ليستخدمها لاحقا في الهجوم على مواقع الجيش.
لم يسأل أحد عن قرار تسليم كل أسلحة ومقار هيئة العمليات بجهاز الأمن إلى الدعم السريع بعد قرار حلها، أو عن سماح البرهان بتجريد الاحتياطي المركزي من أسلحته الثقيلة من الدوشكات ووغيرها ومنحها للدعم السريع قبل الحرب بشهرين، وهي كلها قرارات ساهمت بشكل مباشر في إضعاف الجيش وتعزيز قوة الدعم السريع.
ليست المشكلة الجوهرية في ضعف القدرات الشخصية للفريق أول عبد الفتاح البرهان ولا في اختياره لهيئة أركان ضعيفة، إذ يكفي أن نذكر أن الفريق أول محمد عثمان الحسين، رئيس الأركان الحالي الذي تجاوز سن المعاش، قضى العقد الأخير بأكمله في مناصب إدارية داخل هيئة الأركان، ست سنوات منها رئيسا لها، دون أن تكون له خبرة ميدانية حقيقية أو أن يكون قد تولى قيادة لواء أو فرقة يوما واحدا في حياته العسكرية.
المشكلة الحقيقية لا تكمن في الأشخاص وحدهم، بل في قانون القوات المسلحة الذي منح القائد العام صلاحيات مطلقة وجعله المتصرف الوحيد في شؤون الجيش كافة، فهو الذي يعين ويعزل ويرقي ويحيل إلى التقاعد، دون أن يكون هناك رقيب أو حسيب أو آلية مؤسسية تحد من سلطته أو توازنها. ونتيجة لذلك صار معيار الولاء الشخصي هو الأداة الوحيدة للبقاء والترقي، فالمقربون والموالون ينالون الحظوة والامتيازات، بينما من يشك في ولائهم – مهما بلغت كفاءتهم وخبراتهم – يحاصرون بالكيد والمؤامرات ثم يدفعون إلى التقاعد المبكر، لتتحول المؤسسة العسكرية إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية أكثر منها مؤسسة وطنية قائمة على الكفاءة والانضباط.
وقد أشار العميد السر أحمد سعيد، مدير فرع العمليات العسكرية الأسبق، في كتابه السيف والطغاة إلى أن الطعنة النجلاء التي أصابت الجيش تمثلت في القانون العسكري لسنة 1983 وتعديلاته اللاحقة والذي جاء بديلاً لقانون القوات المسلحة لسنة 1957، وهو القانون الذي وضعه أشخاص لا دراية لهم بالشؤون العسكرية، فكان بمثابة تقويض لبنية الجيش المؤسسية وإخضاعها بالكامل لإرادة القائد العام.
وكما قال رئيس وزراء فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى جورج كليمنصو: “إن الحرب أكبر من أن تترك للجنرالات وحدهم”، فإن الحديث عن إصلاح الجيش السوداني يصبح واجبا وضرورة لا يمكن الهروب منها، لأن ترك المؤسسة العسكرية رهينة لقانون مشوه وقيادة فردية مطلقة يعني استمرار نزيفها الداخلي.
فحتى الانتصارات التي حققها الجيش في الحرب الأخيرة ضد قوات الدعم السريع جاءت بثمن باهظ من دماء جنوده وطاقاته البشرية، وهي طاقات استنزفتها قيادة الجيش بسوء إدارتها قبل أن تستنزفها الحرب نفسها، لتؤكد أن الإصلاح المؤسسي لم يعد خيارا بل ضرورة وجودية لبقاء الجيش كقوة وطنية قادرة على حماية الدولة.
نواصل