![]()
يُعرَف لبنان بأنه بلد زاخر بالأحزاب ذات التوجّهات المتعدّدة، بفعل تنوّعه الطائفي المميّز. ومن بين أبرز هذه التنظيمات “الجماعة الإسلامية” التي تأسست قبل أكثر من 60 عامًا، وتمتلك حضورًا جماهيريًا واسعًا، وتُعدّ عنصرًا مؤثرًا داخل الساحة السنيّة في لبنان.
وتُعدّ الجماعة الإسلامية في لبنان حزبًا فاعلًا في الساحة السياسية؛ إذ تشارك في الانتخابات النيابية، وتعقد تحالفات مع مختلف الأطراف اللبنانية، وقد برز ذلك في العديد من الاستحقاقات الدستورية والسياسية. كما يُعَدّ تاريخ الجماعة زاخرًا بمحطات مفصلية قد لا يعرفها كثيرون.
فماذا تقول الحقائق عنها؟ وكيف تأسست في لبنان، ومن أين استمدّت وجودها وعقيدتها؟ وما هو تاريخ عملها السياسي والعسكري؟
للإجابة على هذه الأسئلة، يتتبع هذا السرد مسار الجماعة الإسلامية من جذورها التنظيمية في خمسينيات القرن الماضي وصولًا إلى تأسيسها الرسمي عام 1964، ثم يمرّ بمحطات حضورها السياسي والنيابي، قبل التوقف عند أبرز انعطافاتها العسكرية، ولا سيما تجربة صيدا وظهور “قوات الفجر”:
-
النشأة: من خمسينيات القرن الماضي إلى التأسيس الرسمي عام 1964
-
السياسة: المشاركة الانتخابية ومحطات التمثيل النيابي
-
المقاومة: صيدا 1982 وولادة “قوات الفجر” وصولًا إلى تطورات 2023
نشأة الجماعة الإسلامية في لبنان
منذ عهد الانتداب الفرنسي في لبنان، شهدت البلاد نشاطًا حزبيًا متنوعًا، وتعزّز ذلك بعد الاستقلال عام 1943، مع صعود تنظيمات ذات توجهات متباينة، من اليسار إلى القوميين وصولًا إلى الأحزاب ذات الطابع الديني.
وفي هذا المشهد الذي شهد ولادة أحزاب مبكرة مثل “الحزب الشيوعي اللبناني(1) (1924) و”الكتائب اللبنانية”(2) (1936)، ستتشكل لاحقًا البيئة التي خرجت منها “الجماعة الإسلامية”.
وفي سياق تلك المرحلة، برزت جماعات وأحزاب عديدة. أما “الجماعة الإسلامية” فقد تأسست رسميًا عام 1964، ولم تكن نشأتها وليدة الصدفة؛ بل ارتبطت بمسار استمر لسنوات وأسفر عن ولادة تنظيم أصبح مؤثرًا على صعيد الطائفة السنيّة في لبنان.
ويعود أصل نشأة الجماعة إلى خمسينيات القرن الماضي، ولا سيما في ظل التصادم القائم بين التيارات السياسية المختلفة، خصوصًا بين التيارات الناصرية والشيوعية والبعثية من جهة، والحالة الإسلامية من جهة أخرى.
وفي حقبتي الخمسينيات والستينيات، واجه العمل الإسلامي صعوبات كبيرة. وقد تجلّى ذلك في قمع الحريات والملاحقات الأمنية للإسلاميين، بالتوازي مع حملات إعلامية وسياسية وأمنية طالتهم في أكثر من بلد.
وازداد التضييق على الإسلاميين، ولا سيما في مصر، إثر محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إذ أعقبتها حملة قمع طالت جماعة الإخوان المسلمين، ما انعكس على الحالة الإسلامية في لبنان.(3)
تسلسل زمني..
من التمهيد إلى التأسيس
-
1950: تأسيس “عباد الرحمن”
-
1956: أول مركز لـ”عباد الرحمن” في طرابلس
-
1958: انتقال مركز طرابلس إلى محلة “صفّ البلاط”
-
1963: استخدام اسم الجماعة قبل الترخيص
-
1964: تأسيس “الجماعة الإسلامية” وافتتاح مركز الطريق الجديدة
“عباد الرحمن”.. الرعيل الأول لـ”الجماعة الإسلامية”
في هذا الوقت، كانت هناك جماعة في لبنان تُسمّى “عباد الرحمن“، ومنها انطلق الرعيل الأوّل لـ”الجماعة الإسلامية”. شكّلت “عباد الرحمن” حاضنة لمن أطلقوا “الجماعة الإسلامية”؛ إذ عملوا تحت مظلتها وبمساندتها، فتمكّنوا عبرها من التطوّر دعويًا وفكريًا وحركيًا.
وتأسست جماعة “عباد الرحمن” عام 1950 على يد الداعية محمد عمر الداعوق، المولود في بيروت عام 1910، والذي كان يدعو الناس إلى العودة للإسلام بوصفه سبيلًا لنهضة الأمة، ولا سيما بعد نكبة فلسطين عام 1948.
وكان المركز الأول لـ”عباد الرحمن” في منطقة البسطة الفوقا في بيروت. وكان الداعوق بعيدًا عن الشأن السياسي، إذ انصبّ اهتمامه على الدعوة والمسائل الفقهية والأخلاقية، فاستقطب عددًا كبيرًا من الناس، وتمكّن من ضم نحو 10 آلاف مُنتسب، ولا سيما بعد عام 1948.
وفي عام 1956، أنشأ الداعوق أول مركز لـ”عباد الرحمن” في طرابلس، لتصبح للجماعة شعبتان أساسيتان: الأولى في العاصمة، والثانية في الشمال.
“الرعيل الأول”
من خلال فرع طرابلس، ترسّخ نشاط المجموعة التي أسست “الجماعة الإسلامية” لاحقًا، وضمت شخصيات منها:
-
فتحي يكن
-
عبد الرحمن القصاب
-
مصطفى صالح موسى
-
مدحت بلحوص
-
مديح الشامي
-
هشام قطاب
-
سعيد شعبان
وكان مؤسسو “الجماعة الإسلامية” ضمن تجمع “عباد الرحمن”، ومعظمهم من الطلاب. كما أن فكرهم لم يكن بعيدًا عن فكر “الإخوان المسلمين”، ولا سيما أن كتابات قادة الحركة كانت تصل إلى لبنان وتترك أثرًا واضحًا لدى من يطّلع عليها ويتابعها.
وفي طرابلس، افتتحت “عباد الرحمن” مركزًا في شارع الجميزات، قبل أن تنقله أحداث عام 1958 إلى محلة “صفّ البلاط” داخل المدينة.
كما أسهمت مصادر مكتوبة في تبلور الفكر الإسلامي لدى مؤسسي “الجماعة الإسلامية”، من بينها مجلة “الدعوة” التي كانت تصل إلى لبنان وتعرّف كثيرين على فكر “الإخوان”. وكانت هذه المجلة من عوامل التقاء الداعية فتحي يكن، مؤسّس “الجماعة الإسلامية” في لبنان، مع النواة الأولى التي شكّلت لاحقًا هذه الحركة.
وفي تلك المرحلة، كان يكن يلتقي أسبوعيًا بأفراد هذه النواة للتعرّف إلى الكتب الدعوية الواردة من مصر، ولا سيما كتابات السيد محمد قطب. ومع تراكم القراءة والنقاش، بدأت تتكوّن خلفية فكرية ودعوية مشتركة، وجرى نقلها إلى المجال العام عبر الخُطب واللقاءات، وكان يكن من أبرز من اضطلعوا بهذه المهمة.
أما الانعطافة الأهم لدى “الرعيل الأول” للجماعة، فتمثّلت في التعرف إلى رموز بارزة في جماعة الإخوان المسلمين، وفي مقدمتهم مصطفى السباعي. وقد تم ذلك عبر محاضرة ألقاها في جمعية “مكارم الأخلاق الإسلامية“، إضافة إلى المخيمات التي نظّمتها جماعة “عباد الرحمن”. وفي تلك اللقاءات والأنشطة، ترسّخت لدى المجموعة الناشئة مقاربات أوضح للعمل الدعوي والتنظيمي، وتبلورت ملامح هويتها الفكرية داخل البيئة اللبنانية.
الانفصال عن “عباد الرحمن”
نشطت جماعة “عباد الرحمن” بقوة في مدينة طرابلس شماليّ لبنان، حيث لم يقتصر عملها على الشأن الأخلاقي والدعوي، بل أخذ يمسّ الشؤون الفكرية والسياسية أيضًا. في المقابل، بقي فرعها في بيروت أقرب إلى الطابع الدعوي-الأخلاقي، من دون انخراط واضح في العمل السياسي.
وكان فتحي يكن في طليعة من قادوا “عباد الرحمن” في طرابلس، إذ أسهم في تشكيل مجلس إدارة ووضع خطة عمل، ورافق ذلك صدور بيانات سياسية، إلى جانب مجلة “المجتمع” التي كانت تصدر في المدينة.
وفي تلك الفترة، نظّمت “عباد الرحمن” مخيمات تربوية ودعوية، كما أقامت مخيمات ذات طابع عسكري، ولا سيما في الشمال. ولم تكن هذه المخيمات مُعلنة أو عامة، إذ أُقيم بعضها في مناطق نائية مثل القموعة في عكار، وخضع المشاركون فيها لتدريبات على استخدام السلاح الفردي وإطلاق النار.
ولم يُلغِ ذلك الطابع الدعوي للجماعة؛ إذ كان المشاركون يشترون سلاحهم الفردي بأنفسهم. وكان لافتًا أن بعض الشبان الذين شاركوا في هذه المخيمات حاولوا تصنيع أسلحة رشاشة صغيرة بوسائل بدائية وبمواد متاحة.
ولعب العمل الطلابي في المدارس والثانويات دورًا مؤثرًا في تشكّل النواة الأولى التي ستؤسس “الجماعة الإسلامية”، إذ جاء عدد من هؤلاء الطلاب من مناطق لبنانية مختلفة. وقد عُرفت هذه المجموعة بتفاعلها مع قضايا عدة، ولا سيما أحداث عام 1958، فضلًا عن انخراطها في مناصرة القضية الفلسطينية والثورة الجزائرية.
ومع مرور الوقت، بدأت الفوارق الفكرية والتنظيمية تظهر بين المجموعة الناشئة وبين “عباد الرحمن”. ففرع بيروت كان يميل إلى حصر النشاط في الإطار الأخلاقي والديني، فيما كان فرع طرابلس أكثر انخراطًا في الصراع الفكري الذي كان محتدمًا في لبنان والمنطقة العربية بين الاتجاه الإسلامي من جهة، والاتجاهات القومية والاشتراكية من جهة أخرى.
وبرزت عوامل إضافية أسهمت في توتر العلاقة. فمن جهة، كان فرع “عباد الرحمن” في بيروت يميل إلى الخط المؤيد لتوجهات الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وقد ظهر ذلك في حادثة تعليق محمد عمر الداعوق صورة لعبد الناصر وإرفاقها بعبارة “بطل القومية العربية“. وقد عُدّت هذه الإشارة أحد عناصر الخلاف مع المجموعة التي ستتجه لاحقًا إلى تأسيس “الجماعة الإسلامية”.
ومن جهة أخرى، كانت أحداث عام 1958 محطة فاصلة. ففي تلك المرحلة، آثرت “عباد الرحمن” في بيروت الوقوف على الحياد، والاكتفاء بأدوار إغاثية وإنسانية والابتعاد عن أي عمل عسكري. أما في طرابلس، فكان المزاج مختلفًا؛ إذ رفضت المجموعة هناك هذا النهج، وانخرطت فعليًّا في العمل العسكري، فأنشئت مراكز للتطوع تلقّى فيها المنتسبون تدريبات على حمل السلاح، وجرى تصنيع بعض الرشاشات بوسائل محلية.
طرابلس vs بيروت
-
طرابلس
-
لم يقتصر عملها على الشأن الأخلاقي والدعوي، بل أخذ يمسّ الشؤون الفكرية والسياسية أيضًا.
-
انخرطت في العمل العسكري، فأنشئت مراكز للتطوع تلقّى فيها المنتسبون تدريبات، وجرى تصنيع بعض الرشاشات بوسائل محلية.
-
-
بيروت
-
بقي فرعها في بيروت أقرب إلى الطابع الدعوي-الأخلاقي، من دون انخراط واضح في العمل السياسي.
-
آثرت الوقوف على الحياد، والاكتفاء بأدوار إغاثية وإنسانية والابتعاد عن أي عمل عسكري.
-
تشكيل “الجماعة الإسلامية”
في عام 1964، تأسست “الجماعة الإسلامية” رسميًا، وافتُتح مركز لها في محلة الطريق الجديدة في بيروت قرب مبنى جامعة بيروت العربية.
لكنّ مسألة الترخيص واجهت صعوبات واضحة؛ إذ استُخدم اسم الجماعة عام 1963 قبل الحصول على الإجازة الرسمية، كما رُفضت محاولات الترخيص في البداية بحجة أنها امتداد تنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين.
غير أن تولّي الزعيم الدرزي كمال جنبلاط وزارة الداخلية شكّل محطة حاسمة؛ إذ وافق على طلب الترخيص الذي قدّمه زهير العبيدي، وكان الطلب مقدمًا باسم فتحي يكن، وإبراهيم المصري، وفايز إيعالي، ومحمد دريعي، ومحمد كريمة.
وضمت اللجنة التأسيسية نحو خمسين شخصًا. وبينما ظلّ التمركز الأبرز في طرابلس حيث كان معظم المنتسبين من أبناء المدينة، بدأ التنظيم يتوسع لاحقًا نحو بيروت، ثم صيدا في الجنوب، والبقاع شرق البلاد.
في طرابلس، تولّى عبد الله بابتي رئاسة مكتب المدينة سنة 1965. وفي عام 1969، شُكّل أول مجلس شورى مركزي للجماعة، وانتُخب من قبل هيئة عامة تمثل مختلف المناطق اللبنانية وتضم جميع المنتسبين. وبلغ عدد أعضائه 15 عضوًا، من أبرزهم: فتحي يكن، وفيصل المولوي، ومحمد رشيد ميقاتي، ومحمد علي ضناوي، وسعيد شعبان، وغسان حبلص، وعبد الله بابتي، وأحمد خالد، وزهير العبيدي، وهشام قطّان، وعبد الفتاح زيادة، وإبراهيم المصري. وانتُخب ضناوي رئيسًا للمجلس، كما رُشح للانتخابات النيابية العامة في لبنان عام 1972.
وعقب ذلك، انتُخب أول مكتب قيادي للجماعة، وضم: مدحت بلحوص، وهشام قطّان، وإبراهيم المصري، وفايز إيعالي. أما منصب الأمين العام فشغله فتحي يكن، فيما تولّى محمد رشيد ميقاتي منصب أول أمين سرّ لمكتب القيادة على مستوى لبنان.
وحتى عام 1967، كان المدّ الناصري عاملًا يؤخر تجاوب شرائح واسعة مع الحركة الناشئة، غير أن حرب 1967 وجهت ضربة قاسية لهذا المد، ما أحدث صدمة واسعة لدى الرأي العام.
وبعد تأسيس الجماعة، استمر العمل الكشفي والرياضي الذي أُطلق عليه اسم “الفتوّة“، وكانت تدريبات الرماية جزءًا من نشاطه.
ومع ازدياد تعقّد الأوضاع في لبنان قبيل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، بدأ التدريب العسكري داخل الجماعة يأخذ طابعًا أكثر انتظامًا. ففي الفترة بين 1972 و1973، أُقيمت تدريبات ضمن ما عُرف بـ”دورة مقاتل عادي” أو “دورة عرفاء“، وشملت استخدام رشاشات حربية، وقنابل يدوية، وقذائف “آر بي جي“، إضافة إلى “الدوشكا“.
وفي عام 1974، أصبحت للجماعة نقاط تدريب خاصة وسرّية، ثم تطورت التدريبات مطلع عام 1975، كما استعانت بضباط عسكريين بعد انقسام الجيش اللبناني. وجرت عمليات شراء لأسلحة خفيفة وثقيلة، فيما منح “جيش لبنان العربي” الجماعة بعض الأسلحة الثقيلة من ثكنات في طرابلس. وقد اقتصر التدريب العسكري على الأعضاء المبايعين للجماعة.
“حقائق سريعة”..
الجماعة الإسلامية بين التأسيس الترخيص
-
التأسيس الرسمي: 1964
-
استخدام الاسم قبل الترخيص: 1963
-
مكان المركز: الطريق الجديدة – بيروت
-
وزير الداخلية الذي وافق على الترخيص: كمال جنبلاط
-
اللجنة التأسيسية: نحو خمسين شخصً
العمل السياسي في الجماعة.. “أساس ثابت”
منذ انطلاقتها وتصاعد نشاطها، رأت الجماعة الإسلامية أن العمل السياسي عنصر أساسي في مشروعها، وهو ما تُرجم بخوض الانتخابات النيابية العامة في لبنان عام 1972.
اعتمدت الجماعة خطابًا معتدلًا، ورفضت مظاهر التطرف والعنف، مؤكدة أهمية النظام الديمقراطي القائم على احترام التعددية الطائفية وخصوصيات المكوّنات اللبنانية.
وكانت الجماعة حاضرة عند اندلاع الأزمة اللبنانية عام 1975، إذ رأت أن أسبابها تعود إلى اختلالات سياسية وخدماتية بين شرائح المجتمع اللبناني، فضلًا عن التمييز الطائفي والخلل الدستوري.
وبعد اندلاع الحرب، ثبّتت الجماعة رؤيتها التي دعت إلى إلغاء الطائفية السياسية، وتعديل الدستور، وإصلاح المؤسسة العسكرية عبر قانون جديد للجيش. كما رفضت مشاريع التقسيم، وشدّدت على الحوار بين اللبنانيين، مع رفضها كل أشكال التعامل مع إسرائيل.
وفي عام 1992، وبعد انتهاء الحرب الأهلية، شاركت الجماعة في أول انتخابات نيابية بعد اتفاق الطائف. وقد دفعت بمرشحين في مناطق عدة، وفاز ثلاثة منهم: فتحي يكن، وأسعد هرموش، وزهير العبيدي، في نتيجة وُصفت آنذاك بالمفاجئة داخل الأوساط السياسية والأمنية في لبنان وسوريا.
وفي انتخابات عام 1996، خاضت الجماعة الاستحقاق في ظل ما كان يُعرف بـ”الوصاية السورية” على لبنان، وفازت بمقعد واحد في عكار كان من نصيب خالد الضاهر. أما في انتخابات عام 2000، ففقدت تمثيلها النيابي، وفي انتخابات عام 2005 لم تُشارك.(4)
وفي انتخابات عام 2009، استعادت الجماعة مقعدًا نيابيًا واحدًا في بيروت عبر عماد الحوت. غير أنها لم تحصد أي مقعد في انتخابات 2018، قبل أن يعود الحوت ويفوز مجددًا في انتخابات 2022.
الجماعة والعمل العسكري.. صيدا ساحة للنضال
يمتد تاريخ العمل العسكري للجماعة الإسلامية على سنوات طويلة، علمًا أن هذا المسار لم ينقطع تمامًا. وفي أحدث محطاته، ظهرت “قوات الفجر” (الجناح العسكري للجماعة) على وقع التصعيد الذي تلا عملية “طوفان الأقصى” عام 2023، بالتزامن مع اتساع المواجهة بين لبنان وإسرائيل.
دخلت هذه القوات على خط المواجهة من جنوب لبنان، ونفّذت عمليات، كما طالتها عمليات اغتيال. لكنّ هذا الدور العسكري لم يكن جديدًا على الجبهة، إذ كان لها حضور عسكري إبّان اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، عبر تنظيم عُرف باسم “مجاهدون” ضم عناصر من الجماعة ومن خارجها.
صيدا 1982: مفاتيح المشهد
-
1982: اجتياح إسرائيلي ووصول قوات الاختلال إلى بيروت
-
صيدا: وُلدت “قوات الفجر”، وخاضت مواجهات ضد الجيش الإسرائيلي.
-
التحوّل: “اعتماد حرب العصابات بدلًا من المواجهة المفتوحة”
-
العملية الأولى: أواخر أغسطس/ آب 1982 (بولفار معروف سعد)
وفي يونيو/ حزيران 1982، شهد لبنان اجتياحًا إسرائيليًا برًّا وبحرًا وجوًّا، وقد تقدّمت أرتال القوات الإسرائيلية داخل العمق اللبناني حتى وصلت إلى بيروت في غضون أيام. وآنذاك، قررت عناصر من الجماعة الإسلامية تنظيم نفسها، وكانت لها عمليات قتالية عديدة في وجه الجيش الإسرائيلي في بيروت وضواحيها.
غير أن المنعطف الأبرز في مسار العمل العسكري للجماعة كان في مدينة صيدا جنوبي لبنان، وتحديدًا بعد الاجتياح. ففي المدينة التي كان للجماعة فيها فرع لتنظيم “مجاهدون”، وُلدت “قوات الفجر“، وخاضت مواجهات ضد الجيش الإسرائيلي.
آنذاك، شكّل احتلال إسرائيل لصيدا صدمة كبيرة، ودفع شبانًا مقاومين، من بينهم عناصر من الجماعة الإسلامية، إلى الاستعداد للمواجهة. وكان المسؤول العسكري للجماعة في الجنوب هو الشهيد جمال حبال.
وفي تلك المرحلة، شُكّلت غرفة عمليات مشتركة ضمت قوى فلسطينية وفصائل يسارية كانت موجودة في لبنان، وشاركت الجماعة فيها ومثّلها جمال حبال.
مع ارتفاع عدد الشهداء نتيجة الهجمات الإسرائيلية، ولا سيما إثر استهداف الجامع العمري الكبير في صيدا وتدمير مبانٍ وإصابة مدنيين، اتجهت الجماعة إلى اعتماد حرب العصابات بدلًا من المواجهة المفتوحة، بهدف استنزاف الجيش الإسرائيلي.
آنذاك، كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد شهدت تراجعًا عسكريًا انتهى بخروجها من لبنان عام 1982 بعد أشهر قليلة من الاجتياح. وفي الوقت الذي انسحب فيه مقاتلو المنظمة من صيدا، قررت مجموعات من عناصر الجماعة الاستمرار في القتال.
وتصاعدت عمليات الجماعة في صيدا ضمن عمل سرّي قائم على خلايا متخفّية، أُخفيت أسلحتها في المنازل والحقول والبساتين. وامتلكت هذه المجموعات أسلحة خفيفة ومتوسطة، إضافة إلى صواريخ من نوع كاتيوشا.
في أواخر أغسطس/ آب 1982، نفّذت “قوات الفجر” عمليتها الأولى في صيدا، مستهدفة دوريات إسرائيلية عند بولفار معروف سعد قرب مستشفى إيليا بعبوات ناسفة زُرعت في المكان.
العملية الأولى:
“قوات الفجر” تستهدف دوريات إسرائيلية
-
التوقيت: أواخر أغسطس/ آب 1982
-
المكان: بولفار معروف سعد – قرب مستشفى إيليا
-
الهدف: دوريات إسرائيلية
-
الوسيلة: عبوات ناسفة زُرعت في المكان
وبعد هذه العملية، خفّض الإسرائيليون تسيير الدوريات داخل الأحياء، وتولّى “جيش لبنان الجنوبي” بقيادة سعد حداد، الذي كان حليفًا لإسرائيل، جزءًا من مهام الانتشار.
ومع تزايد العمليات، تقلّص هامش حركة القوات الإسرائيلية داخل المدينة، بعدما كانت تتحرّك بحرية واسعة. وترافقت تلك المرحلة مع مظاهر نفوذ إسرائيلي مباشر في صيدا، من تنظيم حركة تجارية وإدخال بضائع إسرائيلية، وصولًا إلى محاولات تطبيع الحياة تحت الاحتلال.
وفي ظل السرية التي حكمت العمل المقاوم، تقرر انتقال بعض قادة العمل العسكري إلى بيروت، ولا سيما بعد انسحاب إسرائيل منها، حيث وُضعت أسس تنظيم هذا المسار ضمن قيادة الجماعة. وكُلّف إبراهيم المصري بالإشراف على العمل المقاوم في الجنوب والتنسيق مع العناصر الميدانية.
وكان من أبرز من تولوا مسؤوليات الإشراف على العمل العسكري آنذاك الشهيد جمال حبال بصفته مسؤولًا عسكريًا، وصلاح الدين أرقه دان الذي تولى مهمة الارتباط والتنسيق مع مجموعات مقاومة أخرى في الجنوب، علمًا بأن “حزب الله” لم يكن قد تأسس بعد.
استشهاد جمال حبال وتحرير صيدا
استمر العمل العسكري تحت اسم “قوات الفجر” من دون إعلان صريح عن الجهة التي تقف خلفه، حتى ديسمبر/ كانون الأول 1982، حين استُشهد جمال حبال مع محمود زهرة ومحمد علي الشريف في منطقة القياعة – صيدا، فجر 27 ديسمبر 1982. فقد طوقت القوات الإسرائيلية شقة الشريف، واندلعت معركة أسفرت عن سقوط قتلى إسرائيليين، من بينهم ضابط من لواء “غولاني”.
وعقب الاشتباك، زار وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك آرييل شارون موقع المعركة وأمر بتدمير المنزل الذي كان الشهداء يتحصنون داخله. وبعد ذلك، انكشفت الجهة التي تقف وراء “قوات الفجر”، فاعتُقل عدد من قيادات الجماعة الإسلامية، وفي مقدمتهم الشيخ محرم العارفي، إلى جانب محمد قبلاوي ومصطفى حجازي وآخرين.
ورغم الاعتقالات، استمرت عمليات “قوات الفجر” في صيدا حتى أُجبر الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من المدينة وضواحيها تحت ضغط الضربات المتراكمة. وبعد الانسحاب، شهدت صيدا اشتباكات بين مقاومي الجماعة وعملاء إسرائيل الذين كانوا ينتشرون داخلها وفي محيطها الشرقي. كما شكّلت الجماعة مجموعات مراقبة في الأحياء لحماية الأهالي.
وتمكنت هذه المجموعات من تثبيت سيطرتها وصولًا إلى تخوم بلدة كفرفالوس شرق صيدا، حيث تمركزت القوات الإسرائيلية مع “جيش العملاء”.
وقد انعكس ذلك على صورة الجماعة في أوساط جزء من أهالي صيدا، الذين عبّر بعضهم عن تأييد لمسارها المقاوم. وسقط للجماعة عدد من الشهداء، من بينهم: جمال حبال، ومحمود زهرة، ومحمد علي الشريف، وسليم حجازي، وبلال عزام، وفوزي آغا، ونزيه قبرصلي، وبشير الأتب، وأحمد الديماسي وغيرهم.
ولم يتوقف نشاط الجماعة عند حدود صيدا، إذ استكملت عملياتها وفق نهج حرب العصابات في المناطق الجنوبية المحتلة، بالتنسيق مع فصائل مقاومة أخرى، بهدف استنزاف الجيش الإسرائيلي.
ذكريات ومحطّات.. أستاذ فمقاوم فشهيد
للجماعة الإسلامية حضور عسكري أيضًا في مناطق خارج صيدا والجنوب، ولا سيما في البقاع الغربي (شرق لبنان) وإقليم الخروب (شمال صيدا)، حيث خيضت مواجهات ضدّ عملاء إسرائيل.
وفي هذا الإطار، يروي الشيخ إبراهيم الشمعة، وهو أحد أبرز مؤسسي الجماعة الإسلامية في إقليم الخروب، في حديث خاص إلى موقع التلفزيون العربي، تفاصيل من ذكرياته عن حقبة الثمانينيات.
فماذا في جعبته ليكشفه لموقعنا؟
إبان اجتياح عام 1982، سطّرت الجماعة الإسلامية أسمى ملاحم البطولة لدحر الجنود الإسرائيليين من مدينة صيدا والجنوب.
كنتُ أعرف الشهيد حبال جيدًا وألتقيه دائمًا.. في الأساس، كان أستاذًا في مدرسة رسمية.
إن مسيرة الجماعة الإسلامية في لبنان ناصعة جدًا، كما أن سجل مقاومتها ضد إسرائيل دخل التاريخ من أوسع أبوابه قبل سنوات طويلة…
ينطلق الشمعة في حديثه إلى موقع التلفزيون العربي، من الدور التاريخي الذي لعبته الجمتاعة في عمليات التصدي للجيش الإسرائيلي، لافتًا إلى أنّها سطّرت، إبان اجتياح 1982، أسمى ملاحم البطولة لدحر الجنود الإسرائيليين من مدينة صيدا والجنوب.
ويقول: “آنذاك، كان مقاومو الجماعة يشنّون عمليات خاطفة ضد الإسرائيليين، فجعلوهم خائفين ومرعوبين وغير قادرين على التحرك بسهولة”.
ويلفت الشمعة إلى أن الشهيد جمال حبال كان يسلك طريق إقليم الخروب مع قادة آخرين في العمل العسكري للتوجّه إلى بيروت، مشيرًا إلى أن حبال كان إنسانًا هادئًا وعاقلاً وذا خبرة واسعة في العمل العسكري.
ويضيف أنّه كان يحضّ من يلتقيهم على التمسك بمبدأ الدفاع عن الأرض وعدم التنازل عن حق اللبنانيين في تحرير وطنهم.
“كنتُ أعرفه جيدًا وألتقيه دائمًا.. في الأساس، كان الشهيد حبال أستاذًا في مدرسة رسمية. كان يعمل بلا كلل أو ملل، كما أنه كان يتحلّى بالشجاعة.
كان يقول لنا باستمرار إن الضربات المتزايدة ستُخرج إسرائيل من لبنان، وكان يؤكد أن خيار التحرير لا رجعة عنه“.
ويقول الشمعة إن أخبار العمليات التي كانت تنفذها الجماعة الإسلامية في صيدا كانت ترد يوميًا، مضيفًا:
“ما إن نسمع بعملية حتى نشعر بسعادة غامرة. إن إخواننا كانوا مجاهدين بحق، وقدّموا الغالي والرخيص في سبيل أرضهم في مواجهة عدو يملك قدرات عسكرية هائلة.
لكن هذه الآلة العسكرية الضخمة انكسرت أمام مقاتلي الجماعة وغيرها من الأطراف اللبنانية الأخرى التي واجهت العدو ببسالة في لبنان”.
ويلفت الشمعة أيضًا إلى أن حبال كان يميل إلى نهج حرب العصابات، وأن “قوات الفجر” كانت تحاول تجنب إلحاق الأذى بالمدنيين عبر تركيز عملياتها على استهداف الجنود الإسرائيليين حصرًا، ويقول:
“إن حرص الجماعة وعناصرها على المدنيين كان كبيرًا، وأهالي صيدا يشهدون على ذلك..
كانت قوات الفجر تسعى قدر الإمكان إلى أن يكون عملها سرّيًا، وفي الوقت نفسه كانت تحرص على أن تكون عملياتها مركّزة لإيلام العدو في مناطق محورية ضمن صيدا، ولا سيما عند الشواطئ والمناطق الداخلية”.
وفي الختام، يصف الشمعة مسيرة الجماعة الإسلامية في لبنان بالناصعة، فهي قدّمت شهداء ضدّ إسرائيل، “وهذا وسام فخر لنا”.
ويشير إلى أن سجل مقاومتها ضد إسرائيل دخل التاريخ من أوسع أبوابه قبل سنوات طويلة، وقد كان لقوات الفجر خلال معركة طوفان الأقصى عام 2023 عمليات بطولية ضد العدو الإسرائيلي والجميع يعرفها ويشهد لها. كذلك، وخلال الحرب على لبنان، قدّمت الجماعة شهداء ضد إسرائيل، وهذا وسام فخرٍ لنا”.
خلاصة
لا يهدف هذا السرد إلى تقديم قراءة شاملة لكل مسارات “الجماعة الإسلامية” في لبنان، ولا إلى الخوض في وقائع الداخل أو في الخلافات والتنظيمات والتجاذبات التي رافقت مسيرتها في مراحل لاحقة، بل يركّز على محطات تأسيسية ومفصلية شكّلت صورتها العامة في الوعي السياسي والشعبي، ولا سيما على تقاطع العمل الدعوي بالسياسي، وعلى حضورها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في لحظات محددة من تاريخ لبنان الحديث.
ويبقى السؤال مفتوحًا اليوم حول موقع الجماعة الإسلامية ودورها في المشهد اللبناني الراهن:
كيف تقرأ تحوّلات الداخل؟ وما حدود تأثيرها السياسي والشعبي في ظل تغيّر موازين القوى وتبدّل أولويات الشارع السني؟وإلى أي مدى لا تزال تجربتها، بما تحمله من إرث تاريخي ونضالي، قادرة على إعادة تعريف دورها في بلد يعيش أزمات متراكبة وانقسامات عميقة؟
هي أسئلة تتجاوز إطار هذا النص، لكنها تفرض نفسها عند مقاربة أي تجربة سياسية ذات امتداد تاريخي، خصوصًا حين تكون قد تشكّلت عند تقاطع الدين والسياسة والمقاومة، في بلد لم يتوقّف يومًا عن اختبار حدوده وهويته ومستقبله.
المراجع:
