“ثرثرة فوق النيل” و”الحب تحت المطر”.. جنس وحشيش وهزائم

Loading

ليس من غير ذي دلالة أن يُقدِم المخرج المصري حسين كمال (1932-2003) على مقاربة روايتي نجيب محفوظ (1911-2006)، “ثرثرة فوق النيل” و”الحب تحت المطر“، سينمائيًا.

فكلتا الروايتين تدوران في أجواء واحدة، وتُعاينان أوضاع النخبة المصرية في مرحلة حرجة من تاريخ البلاد، ضمن فترتين زمنيتين متصلتين.

فبينما تدور أحداث فيلم ثرثرة فوق النيل” في أعقاب هزيمة السابع من يونيو/ حزيران 1967، تجري أحداث “الحب تحت المطر” في الفترة التي عُرفت بحرب الاستنزاف، وصولًا إلى عبور قناة السويس في حرب عام 1973.

وفي الفيلمين، يقوم حسين كمال، بقسوة جارحة، بتشريح أسباب الهزيمة ثم ملامح النصر، من خلال تناوله إحدى شرائح المجتمع المصري، وهي نخبة المثقفين التي غرقت في حالة تكاد تكون مزمنة من اللامعنى والعبث، ردًا على هزيمة صاعقة زلزلت المجتمع المصري، وكشفت هشاشته وصلابته في آن واحد.

“ثرثرة فوق النيل”.. الرواية والفيلم

صدرت رواية “ثرثرة فوق النيل” عام 1966، لكن حسين كمال أعاد تكييف أحداثها وأجوائها لتدور في أعقاب الهزيمة لا قبلها، ما اضطره إلى إضافة أحداث لم تكن موجودة في الرواية، أو التوسع في أحداث واردة فيها أصلًا، من دون الإضرار ببنية النص أو مساره العام. والنتيجة كانت عملًا سينمائيًا ما زال يثير الجدل حتى اليوم، بعد مرور نحو 55 عامًا على عرضه الأول.

وبالإضافة إلى جمالياته السينمائية، اكتسب الفيلم جاذبية خاصة لعدة أسباب، أبرزها جرأته التي وُصفت بالمتطرفة في نقد أوضاع مصر في تلك المرحلة، إلى حدّ أن الفيلم بدا، سياسيًا، أكثر يسارية من الرواية نفسها، التي كادت تؤدي إلى اعتقال كاتبها نجيب محفوظ.

تُضاف إلى ذلك جرأة الفيلم في انتهاك مسلّمات المجتمع ومحرماته، ولا سيما في ما يتصل بصورة المرأة وحضورها في السينما، سواء على مستوى الملابس أو السلوك، من دون أن يُدرج ضمن ما عُرف لاحقًا بأفلام المقاولات، أو أفلام الترفيه التي سلّعت المرأة المصرية وحوّلتها إلى مجرّد دمية جنسية في أعمال افتقرت إلى أي عمق فكري أو جمالي.

أخرج حسين كمال “ثرثرة فوق النيل” عام 1971 عن نص يبدو بسيطًا، قائمًا على الحوار بنوعيه الداخلي (المونولوغ) والخارجي، أكثر مما هو قائم على السرد القصصي التقليدي، لكنه نص بالغ العمق على خلاف ما قد توحي به القراءة الأولى.

ويُعاين محفوظ في روايته واقع الإنتلجنسيا المصرية في ستينيات القرن الماضي، تلك التي فقدت الإيمان بكل شيء، وغرقت في العبث والانحلال والإباحية، كردّ فعل على “أوهام الثورة” التي تبدّدت بفعل الفساد والبيروقراطية والقمع، وتهميش المعارضين، حتى أولئك الذين كانوا من أبناء النظام نفسه.

ولم تقتصر قسوة محفوظ على نقد النظام الناصري، ضمنًا أو جهرًا، بل امتدّت أيضًا إلى تعرية زيف النخب التي انكفأت على ذاتها، ولم تقاوم، ولم تقم بدورها المفترض.

ومن هنا، تدور معظم أحداث الرواية داخل عوامة على النيل، أي داخل فقاعة معزولة عمّا يجري خارجها، فيما يعيش أبطالها حالة من تغييب الوعي عبر تعاطي الحشيش، وانتهاك محرمات المجتمع من دون أي شعور بالمسؤولية تجاه محيطهم.

فساد الإنتلجنسيا ولا مبالاتها

يعمل أبطال الرواية، بحسب السرد، لتأمين رزقهم في نصف اليوم الأول، ثم يجتمعون بعد ذلك في زورق “ليسبح بهم في الملكوت“، فهم “يعيشون فوق الماء“، يهتزّون مع كل حركة، وهم في النهاية “مساطيل“، بلا هوية أو انتماء.

يقول أحد أبطال الرواية واصفًا حالهم:

لعلك تقولين إنهم مصريون، إنهم عرب، إنهم بشر، ثم إنهم مثقفون، فلا يمكن أن يكون هناك حد لهمومهم. الحق إننا لا مصريون ولا عرب ولا بشر. نحن لا ننتمي لشيء إلا هذه العوامة.

“ثرثرة فوق النيل”

 

تدور الرواية والفيلم حول أنيس زكي (أدّى دوره في الفيلم عماد حمدي)، الموظف في وزارة الصحة، “المسطول دائمًا“، الذي يلتحق بشلة العوامة، فيُعيّنه أفرادها “وزيرًا للمملكة لشؤون الكيف”.
وتضمّ الشلة نجمًا سينمائيًا وسيمًا (أحمد رمزي)، وناقدًا فنيًا (عادل أدهم)، وكاتب قصة (صلاح نظمي)، ومحاميًا (أحمد توفيق)، ولكل منهم لقبه الخاص في “مملكة الكيف“.
يقيم هؤلاء في عوامة على النيل، وتلتحق بهم مترجمة في وزارة الخارجية (سهير رمزي)، وزوجة تخون زوجها (نعمت مختار)، وطالبة جامعية (ميرفت أمين)، وأخيرًا سمارة بهجت، الصحافية “الجادة” (ماجدة الخطيب)، بدافع الفضول، ولإعداد مسرحية عن العبث والجدوى.
يجتمع الجميع في العوامة، وعلى إيقاع نشاطهم الرئيسي في الحياة، أي تعاطي الحشيش، يتحدثون عن العالم وشؤونه، كاشفين عن إحباطهم السياسي وسلبيتهم، وفي الوقت نفسه عن اكتفائهم بهذه الحياة، كأنها المعنى الوحيد لوجودهم.

في قلب الرواية يقف أنيس زكي، الذي تبدأ به الأحداث، ويُدير شؤون الشلة، فيما يعيش في عالم من التهويمات التي تمزج الحاضر بالماضي، والواقعي بالتاريخي والمتخيّل.

خلال وجوده بينهم، يتخيّلهم أشخاصًا آخرين، أو يطيب له ذلك، ما يفتح باب الأسئلة السوريالية لديه:

هل اجتمع هؤلاء الأصدقاء بثياب مختلفة في العصر الروماني؟ وهل شهدوا حريق روما؟ ولماذا انفصل القمر عن الأرض جاذبًا وراءه الجبال؟

ومَن مِن رجال الثورة الفرنسية الذي قُتل في الحمام بيد امرأة جميلة؟ وما عدد الذين ماتوا من معاصريه بسبب الإمساك المزمن؟ ومتى تشاجر آدم مع حواء لأول مرة بعد الهبوط من الجنة؟ وهل فات حواء أن تحمّله مسؤولية المأساة التي صنعتها بيدها؟

تبلغ الأحداث ذروتها في الفيلم عندما تقرر الشلة الاحتفال بعيد الهجرة النبوية بجولة ليلية بالسيارة في شارع الهرم، تنتهي بدهس إحدى الفلاحات.

قبلة على شفاه رمسيس

تختلف المعالجة السينمائية عن الرواية قليلًا أو كثيرًا، لكنها تقدّم رؤية بصرية شديدة الجمال والذكاء والجرأة لعالم هؤلاء: نساء جميلات ومتهتكات، رجال ساخرون لا يبالون بشيء سوى متعهم، ما دفع البعض إلى قراءة الفيلم من زاوية واحدة، هي جرأته في “التعرية”، لا في تفكيك بنى التخلف والفساد.

وفي هذا السياق، أقدم حسين كمال على تغييرات صادمة في انتهاك المحظور، إذ لا يكتفي أبطال الفيلم بانتهاك مسلّمات مجتمعهم الحاضر، بل يطالون ماضيه أيضًا.

وخلال جولة الشلة في منطقة الهرم، يبلغ الفيلم ذروة تطرفه، حين يندفع الأبطال نحو تمثال الملك رمسيس الثاني الملقى على الأرض، ويجلسون فوقه، بينما تقول إحدى بطلات الفيلم، سناء (تؤدي دورها ميرفت أمين)، مازحة، إنها ستقبّل رمسيس من شفتيه.

ولا يتوقف الانتهاك عند هذا الحد، بل يمتد إلى روح المجتمع ذاته. فخلال عودتهم من جولتهم، التي تأتي نهارية في الفيلم على خلاف الرواية، يدهسون فلاحة كانت تتبرك بأحد التماثيل الفرعونية طلبًا للإنجاب. في الرواية يدهسون رجلًا لا امرأة.

كأنهم، بهذا الفعل، يقتلون روح البلاد، ويقطعون صلتها بين حاضرها وماضيها، ويسخرون منها، حتى يتحول مقتل الفلاحة دهسًا إلى مادة للضحك.

يطالبهم أنيس، بعد صحوة ضمير مفاجئة، بتسليم أنفسهم، فيكون ردهم الرقص بجنون وهم يغنون:

الفلاحة ماتت ولازم نسلّم نفسنا“.

تصفية حسابات سياسية

في الفيلم والرواية إدانة قاسية للنخب والمثقفين، من دون الاكتفاء بتحميل السياسيين وحدهم مسؤولية الهزيمة، سواء في الفيلم أو في الرواية التي كُتبت قبل هزيمة يونيو/ حزيران.

وقد فتح ذلك الباب أمام تأويلات عديدة، رأت في الفيلم جزءًا من مناخ سياسي ساد في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، لتحميل سلفه جمال عبد الناصر مسؤولية الهزيمة والقمع والفساد، وغيرها من العوامل التي عُدّت أسبابًا لإحدى أسوأ الهزائم العسكرية في تاريخ مصر.

وكانت الرواية نفسها قد أثارت غضب وزير الدفاع المصري عبد الحكيم عامر، الذي توعّد بـ“تأديب” محفوظ، رغم أنها نجت من مقص الرقيب، على خلاف روايات أخرى له.

يروي محفوظ هذه الواقعة في كتاب “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ” للناقد رجاء النقاش، الصادر في أواخر تسعينيات القرن الماضي، قائلًا:

“بعد نشر رواية ثرثرة فوق النيل، ثار المشير عبد الحكيم عامر، وبلغني أنه هدّد وتوعّد بإنزال العقاب بي بسبب النقد العنيف الذي تضمّنته الرواية عن سلبيات قائمة في المجتمع”.

وسمعه البعض وهو يقول: “نجيب زوّدها قوى ويجب تأديبه ووقفه عند حده”، وعندما تخرج كلمة “ويجب تأديبه” من المشير عامر، فإنها تحمل معاني لا تخفى على الذين عاشوا فى ذلك العصر.  

ويضيف محفوظ: 

 عندما جاء ثروت عكاشة لتهنئتى بجائزة نوبل، حكى لى تفاصيل ما دار فى كواليس السلطة عن أزمة رواية “ثرثرة فوق النيل”، فقد كان عكاشة وقتئذ وزيرًا للثقافة.

وبينما هو يستعد لرحلة عمل إلى إيطاليا، استدعاه جمال عبدالناصر، وسأله عما إذا كان قد قرأ الرواية، ولمّا لم يكن قد قرأها، فقد طلب منه عبدالناصر قراءتها وإبداء رأيه فيها بعد عودته من إيطاليا.

قرأ الدكتور ثروت عكاشة الرواية فى أثناء رحلته، وفى أول لقاء له مع الرئيس عبدالناصر دافع عنها وفنّد اتهامات المهاجمين لها، وأكد للرئيس أننى أنبّه إلى أخطاء موجودة، وليس لدى سوء نية فى مهاجمة نظام الحكم، ثم قال له إن من الضرورى أن يتوافر للأدب قدر من الحرية، لينقل صورة واقعية حقيقية عن المجتمع، وإذا لم يجد الأدب هذا القدر من الحرية مات واضمحل تأثيره.

واستطاع الدكتور ثروت عكاشة إقناع عبدالناصر بأن حرية الأدب هى أفضل دعاية للنظام فى الخارج، وبالفعل اقتنع عبدالناصر، وقال للدكتور ثروت عكاشة “اعتبر المسألة منتهية”.

أما رواية “الحب تحت المطر“، التي نُشرت عام 1973 وأخرجها حسين كمال عام 1975، فلم يتعرض محفوظ بسببها لتهديد مباشر، لكن الرقيب حذف أجزاء كبيرة منها، ما أضرّ ببنية الرواية نفسها، كما حدث بصورة أكثر قسوة مع رواية “الكرنك“.

ومع ذلك، ظلّ هاجس “الحب تحت المطر” امتدادًا مباشرًا لما انتهت إليه “ثرثرة فوق النيل“، رواية وفيلمًا.

يبدأ فيلم “الحب تحت المطر” بمشاهد تتناوب على الشاشة، بالتوازي مع شارة الفيلم، لشبان يرقصون ومدافع تقصف ومبانٍ تُدمَّر، ليُفتتح لاحقًا بمشهد شبان يتحرّشون بإحدى الفتيات التي كانت تمشي مع والدها.

يقول الأب لهم:

“لو كنتم قد تربّيتم لما فعلتم هذا. اذهبوا وحاربوا إذا كنتم رجالًا“.

فيكون ردّ الشبان الرقص والدوران حول الأب وهم يهتفون:

“ح نحارب، ح نحارب، ح نحارب”.

فيردّ عليهم الأب غاضبًا:

“أنتم سبب النكسة اللي جات للبلد”.

أسئلة ما بعد الهزيمة في “الحب تحت المطر”

يبدو المشهد كأنه تكرار لمشهد “الفلاحة ماتت ولازم نسلّم نفسنا” الذي كانت فيه شلة العوامة ترقص وتهتف ردًا على دعوة أنيس زكي لهم لتحمّل مسؤولية جريمتهم، كما يبدو الأب كمن يكرّر صرخة أنيس نفسها للمارة بأن يفيقوا من سباتهم بعد عودته من زيارة الجبهة.

وربما يفسّر ذلك أنّ مخرج الفيلمين هو حسين كمال نفسه، إضافة إلى أنّ هواجس الروايتين والفيلمين واحدة.

ومن اللافت هنا أن يكون أبطال الفيلمين هم أنفسهم تقريبًا مع تغييرات قليلة؛ ففي الفيلمين نشاهد عماد حمدي وأحمد رمزي وماجدة الخطيب وميرفت أمين وعادل أدهم تحت إدارة حسين كمال.

“الحب تحت المطر”

تدور أحداث “الحب تحت المطر” في فترة حرب الاستنزاف التي أعقبت هزيمة عام 1967 وقبيل حرب عام 1973 التي عبر فيها الجيش المصري قناة السويس؛ أي بعد الهزيمة وقبل النصر. وينتهي الفيلم فعليًا بإعلان النصر، مع كتابة كلمة “البداية” على الشاشة في نهايته.
وما بين هذه السنوات نرى مزيدًا من التهتك والفساد والانهيار الأخلاقي لدى النخب المصرية، وربما المجتمع بأسره، في مقابل شعور العسكرتاريا المصرية بأنهم يضحّون وحدهم، وأن مستقبل البلاد مرهون بحربهم القادمة؛ وإلا فإن ثمة مصر أخرى ستتكرّس لا علاقة لها بهوية البلاد الأصلية ومعنى وجودها.

تهديد إسرائيلي وانسحاب النُخب المصرية

في بيت مصوّر سينمائي (يؤدي دوره عادل أدهم، الذي أدى دور ناقد فني وسينمائي في “ثرثرة فوق النيل“) نشاهد شبانًا وفتيات في أوضاع حميمة بينما يشاهدون فيلمًا إباحيًا. نساءٌ يُقمن علاقات جنسية ويعدن إلى بيوت أهاليهن في مناطق شعبية، ليُضرَب في أخلاقهن المثل.

شيزوفرينيا حادة لمجتمع يتفكك، في مقابل تنامي التهديد الإسرائيلي وانسحاب النخبة المثقفة وتهتكها.

وكما فعلت الصحافية سمارة رجب (ماجدة الخطيب في “ثرثرة فوق النيل“) برفض اللعبة من أساسها مع ميلٍ غامض للانخراط فيها، تفعل منى زهران (ماجدة الخطيب في “الحب تحت المطر“)، المثقفة الجذرية التي تتحوّل معها الأحداث وتتغيّر المصائر، بعد رفضها تحرّش المخرج السينمائي بها، ما يدفع شقيقها إلى الانتقام لها بقتله.

في الفيلم شعور مرير بالهزيمة وضرورة تجاوزها، بالتزامن مع لا مبالاة مذهلة لدى النخب في تخطي الحدود.

وكما فعل حسين كمال في إبراز أنوثة نسائه في “ثرثرة فوق النيل“، يفعل الشيء نفسه وبقدرٍ أكبر من التطرف مع ميرفت أمين التي تؤدي في الفيلم دور ممثلة سينمائية.

ينتهي الفيلم بتجاوز مصر لتشوّهاتها (إذ يتعرّض البطل للانتقام عبر رشّ ماء النار على وجهه)، وبالغفران لمواجهة المرحلة المقبلة.

وبحدوث ذلك يُعلَن نصر البلاد في حرب عام 1973، كأن على مصر هنا أن تتصالح مع عيوبها وأن تغفر لتقوم من جديد.

لا يقال هذا الكلام على سبيل الإقحام الأيديولوجي في القراءة؛ ذلك أن حسين كمال أثقل فيلمه بكثير من الإسقاطات السياسية، وبعضها بالغ الفجاجة، ما جعل الفيلم، وهو بديع رغم كل شيء، أكثر مباشرة في إيصال رسالته من “ثرثرة فوق النيل”، الذي احتل المرتبة 48 في قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية.