سنُبقي نؤذِّن في مالطا…

سنُبقي نؤذِّن في مالطا…

Loading

سنُبقي نؤذِّن في مالطا…

بقلم/ محمد الحسن محمد نور

إن زيارة السيد رئيس مجلس السيادة إلى المملكة العربية السعودية، ثم إلى جمهورية مصر العربية، شكّلت منعطفًا سياسيًا إقليميًا يُنتظر أن يُفرز واقعًا جديدًا على الأرض.
وقد جاءت بيانات القاهرة هذه المرة أكثر حدة ووضوحًا من أي وقت مضى، ملوّحة – وللمرة الأولى علنًا – بملف اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان.
وهو تطورٌ يأتي بعد مخاضٍ عسير في حسابات الأمن القومي الإقليمي، ولا يُتصوّر أن يكون قد تمّ دون تنسيقٌ داخل الرباعية، وبمباركة أمريكية.

هذا التحرك يشير بجلاء إلى مستوى متقدم من التنسيق، وإلى توجّه استراتيجي آخذ في التشكل، يتضمن رسائل ردع واضحة، وتلويحًا غير مسبوق بإمكانية التدخل العسكري المباشر لصالح الجيش السوداني إذا تجاوزت التطورات خطوطًا بعينها.
وهو ما يعكس إدراكًا إقليميًا – وإن جاء متأخرًا – بأن استمرار الحرب بصيغتها الحالية لم يعد تهديدًا للسودان وحده، بل بات عبئًا أمنيًا وسياسيًا على جواره المباشر.

التحرك الإقليمي الأخير، وعلى رأسه الموقف المصري، يعكس هذا الإدراك جزئيًا، ويرجّح كفة الوقوف الصارم في وجه الفظائع وجرائم الإبادة التي تحاول بعض الدوائر الإقليمية والدولية طمسها أو تمييع توصيفها، إما بدافع المصالح، أو خوفًا من انهيار رهاناتها السابقة.

ومع ذلك، فإنّ هذا المسار – رغم كونه الخطوة الأهم في الاتجاه الصحيح – لا يخلو من كلفة كبيرة.
فالعقبة الأساسية لا تكمن في الوقائع، بل في الحجج التي تُثار حول ما يُوصف بالارتباط بين الجيش السوداني وعناصر من النظام السابق.
وهو ملف أثارته واشنطن علنًا، وجرى تداوله في القاهرة وبعض العواصم الإقليمية والدولية، وما يزال يمثل عائقًا أمام دعم الجيش، وأسهم عمليًا في إطالة أمد الحرب.

وبات واضحًا الآن أن الخطوط الحمراء الأمريكية، ومعظم أطراف الرباعية، لم تعد تكتفي بالتلميح، بل قد تشترط فك هذا الارتباط بصورة صريحة، رغم نفي الجيش المتكرر.
غير أن فرض هذا المسار بالقوة يحمل في طياته مخاطر جسيمة وارتدادات داخلية، وربما يفتح الباب أمام صدامات بين قوى متحالفة داخل معسكر الدولة نفسه.

في ظل ذلك كله، ما زلنا نرى أن الحكومة الحالية قادرة على التحلي بقدر أكبر من الحكمة، عبر أخذ زمام المبادرة وامتلاك الشجاعة السياسية، والخروج من دائرة ردّ الفعل إلى الفعل، باعتماد مسار أقل كلفة وأكثر اتزانًا من السيناريوهات المفروضة من الخارج، وذلك عبر خطوات واضحة ومترابطة:

أولًا: مخاطبة الحس الوطني لدى حزب المؤتمر الوطني المحلول، والتوصل إلى تفاهم سياسي منضبط معه، يتضمن الاعتراف به كحزب قانوني، واستبعاد القرارات الصادرة بحقه بموجب مرسوم رئاسي، مقابل التزامه بإعلان انسحابه الطوعي من العمل السياسي خلال الفترة الانتقالية، وترك المجال لحكومة تكنوقراط مستقلة.
مع التزامه بتقديم الأفراد المتورطين في قضايا الفساد لاحقًا بعد استعادة الدولة لعافيتها.
ويهدف هذا الإجراء إلى تفكيك الذريعة الأساسية التي تُستخدم لنزع الشرعية وشيطنة الجيش، وتعطيل وحجب الدعم عنه.

ثانيًا: وبما أن الدولة صنّفت الميليشيا منظمة إرهابية، فإن هذا الوضع القانوني يمنع التفاوض معها. وعليه، يصبح الخيار الواقعي هو كسر الطوق، والتوجه مباشرة ودون وساطات للتفاوض مع داعمي الميليشيا، بصورة براغماتية خالية من الشعارات، لتأمين مصالحهم المشروعة وفتح أبواب الاستثمار أمامهم، مقابل التزامهم باحترام سيادة الدولة وقطع الإمداد عن الميليشيا وتجفيف مصادر تمويلها وتسليحها.

ثالثًا: ولإكمال دائرة الحل، لا بد من إعلان السودان فورًا دولة فيدرالية، والشروع في التطبيق العملي داخل الولايات التي يسيطر عليها الجيش، عبر انتخابات ولائية حرة.

رابعًا: تشكيل مجلس تشريعي انتقالي عبر انتداب ثلاثة أعضاء من الفائزين في كل ولاية، بما يخلق سلطة تشريعية ذات سند شعبي، ويكسر الفراغ الذي يُستغل للطعن في أي خطوة سيادية.

هذه الرؤية ليست وليدة اللحظة، بل وردت مفصلة في مقالات سابقة، ضمن سلسلة «الآن… الآن وليس غدًا».
وسنظل نؤذِّن في مالطا، حتى يصل الصوت إلى من يهمه الأمر، لأن هذا الطريق – مهما جرى تجاهله – يظل الأقل كلفة، والأكثر أمانًا.

محمد الحسن محمد نور
19 ديسمبر 2025