![]()
طبَع التوترُ العلاقات بين فنزويلا والولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين، لكن الأسابيع الأخيرة دفعت هذا المسار إلى مستوى أكثر خطورة. فبعد أن كانت كاراكاس أحد أبرز الشركاء التجاريين لواشنطن في أميركا الجنوبية، تتجه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب نحو تصعيدٍ مفتوح يستهدف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو ونظامه، ويتقدّم فيه “الكاريبي” إلى واجهة الاشتباك.
ووفق موقع “ذا كونفيرسيشن“(1)، يبدو أن ترمب يعيد إحياء “مبدأ مونرو“ عبر استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها إدارته مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2025(2)، بما يمنح التصعيد غطاءً أيديولوجيًا قديمًا/جديدًا: “الحديقة الخلفية” التي لا يُسمح لخصوم واشنطن بتثبيت أقدامهم فيها.
“مبدأ مونرو”: من ردع أوروبا إلى شرعنة التدخل
قبل قرنين، أعلن الرئيس الأميركي جيمس مونرو أن نصف الكرة الغربي منطقة محظورة على القوى الأوروبية، في ما سُمّي لاحقًا بـ”مبدأ مونرو“؛ وهو إعلانٌ وُلد بصيغة ردعٍ موجّهٍ إلى الخارج الأوروبي، لكنه مهّد عمليًا لهيمنة أميركية ولتدخلات متكررة في دول اعتبرتها واشنطن “مجالاً حيويًا”.
في عام 2013، قال وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري إن “عهد مبدأ مونرو قد انتهى”، في إشارة إلى انتقالٍ مُفترض من منطق الوصاية إلى مقاربة الشراكة.
إلا أن العودة إلى هذا المبدأ، وفق “ذا كونفيرسيشن”، تُستخدم اليوم لشرح إجراءات تدخلية تتخذها واشنطن في أميركا الجنوبية، وتحديدًا الهجمات على سفن في البحر الكاريبي منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2025.
محطتان مفصليتان: 1895 و”ملحق روزفلت”
يُعَدّ “مبدأ مونرو” العمود الفقري للسياسة الخارجية الأميركية تجاه فنزويلا وأميركا اللاتينية منذ أكثر من قرنين.
بدأ “مبدأ مونرو” في سياق حماية الجمهوريات الناشئة (مثل فنزويلا) من عودة الاستعمار الأوروبي، وكتحذيرٍ للقوى الأوروبية من التدخل في “نصف الكرة الغربي”. ثمّ تطوّر تدريجيًا إلى إطارٍ يمنح الولايات المتحدة ذريعة التدخل في شؤون الجوار.
هنا برزت فنزويلا بوصفها إحدى أبرز ساحات اختبار هذا التحوّل في محطتين تاريخيتين. ففي عام 1895، استنجدت فنزويلا بالولايات المتحدة ضد بريطانيا في نزاعٍ حدودي، وفق موقع “مكتب المؤرخ” التابع لوزارة الخارجية الأميركية(3). فتدخلت واشنطن، ورسّخت تلك الحادثة صعودها كقوةٍ مؤثرة، مع تأكيدها أنها ستمارس، بموجب “مبدأ مونرو”، ما تعتبره امتيازاتها في نصف الكرة الغربي.
وفي رسائله السنوية إلى الكونغرس عامَي 1904 و1905، وسّع الرئيس ثيودور روزفلت “مبدأ مونرو” عبر ما عُرف لاحقًا بـ”ملحق روزفلت“. وبموجب هذا التوسيع، لم تعد دول نصف الكرة الغربي محصّنة فقط من الاستعمار الأوروبي، بل أُضيفت فكرة أن الولايات المتحدة تتحمّل “مسؤولية” الحفاظ على النظام وحماية الأرواح والممتلكات في تلك البلدان، وفق وثائق رسمية أميركية(4).
النفط والحرب الباردة: سنوات التقاطع مع واشنطن
افتُتحت قنصلية أميركية في مدينة ماراكايبو الفنزويلية عام 1824، حين كانت فنزويلا جزءًا من الاتحاد الكولومبي. وشكّلت القنصلية أول تمثيل دبلوماسي للولايات المتحدة في فنزويلا.
وبعد انفصال فنزويلا عن الاتحاد، اعترفت الولايات المتحدة بفنزويلا دولةً مستقلة في 28 فبراير/ شباط 1835. وفي 30 يونيو من العام نفسه، قدّم القائم بالأعمال الأميركي جون جي. إيه. ويليامسون أوراق اعتماده إلى الحكومة الفنزويلية في كاراكاس، مُؤسِّسًا رسميًا العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
تسلسل زمني:
محطات في العلاقات الأميركية – الفنزويلية
-
1824: افتتاح قنصلية أميركية في ماراكايبو (أول تمثيل دبلوماسي)
-
1835: اعتراف واشنطن بفنزويلا دولةً مستقلة
-
1836: توقيع أول معاهدة تجارية بين البلدين (ودخولها حيّز التنفيذ لاحقًا)
-
1895: نزاع الحدود مع بريطانيا… اختبار مبكر لتفعيل “مبدأ مونرو”
-
1904–1905: “ملحق روزفلت”… توسيع مبدأ التدخل في “النصف الغربي”
-
1998: صعود هوغو تشافيز وبداية القطيعة السياسية المتصاعدة
-
2019: غوايدو ومرحلة “العقوبات القصوى”
-
2024: انتخابات متنازع عليها… عودة/تشديد العقوبات
-
2025: الكاريبي… من ضغط اقتصادي إلى إجراءات ميدانية وتصعيد بحري/جوي
وفي 20 يناير/ كانون الثاني 1836، وُقِّعت أول معاهدة تجارية بين فنزويلا والولايات المتحدة، ودخلت حيّز التنفيذ في 20 يونيو/ حزيران من العام نفسه. كان ذلك في عهد الرئيس الأميركي السابع أندرو جاكسون، وفي عهد خوسيه ماريا فارغاس، أول رئيس فنزويلي مدني.
وفي أوائل القرن العشرين، استثمرت الشركات الأميركية في قطاع النفط الفنزويلي، وأصبحت الولايات المتحدة أكبر سوق لصادرات النفط الفنزويلية بحلول عشرينيات القرن العشرين.
وخلال الحرب الباردة، كانت فنزويلا حليفًا لواشنطن في سياسة احتواء الشيوعية، واعتمدت قواتها المسلحة إلى حدّ كبير على التدريب والسلاح الأميركيين.
1998: تشافيز… بداية القطيعة السياسية
مع وصول هوغو تشافيز إلى السلطة عام 1998، دخلت العلاقات الثنائية مرحلة تدهورٍ حاد وتوترٍ متصاعد.
أطلق تشافيز “الثورة البوليفارية“، وأعاد كتابة الدستور، وأمّم قطاع النفط. كما استفاد من احتياطيات بلاده النفطية وارتفاع أسعار الخام لتمويل سلع وخدمات مدعومة، بما أسهم في خفض معدل الفقر المدقع بنسبة 15%، وفق ما ذكر موقع “غلوبال كوفلكت تراكير“(5).
وعزّز تشافيز تحالفاته مع إيران وروسيا والصين، فتراجعت علاقته مع الولايات المتحدة.
وعندما وقع انقلاب عام 2002 الذي أبعد تشافيز عن الرئاسة لساعات، اتُّهمت الولايات المتحدة بالوقوف وراءه. وبحلول عام 2010، لم يكن لدى كاراكاس وواشنطن سفراء، بل مديرو أعمال. كما ألغت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تأشيرة السفير الفنزويلي برناردو ألفاريز، ردًا على رفض تشافيز قبول لاري بالمر سفيرًا مُعيّنًا لدى فنزويلا.
بداية عهد نيكولاس مادورو
بعد وفاة تشافيز عام 2013، تولّى نائب الرئيس آنذاك نيكولاس مادورو الرئاسة، ثم انتُخب لاحقًا. وتدهورت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وازدادت العلاقات مع الولايات المتحدة توترًا.
وبحلول عام 2014، اندلعت احتجاجات واسعة مناهضة للحكومة في أنحاء البلاد، واتُّهمت إدارة مادورو بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. ودفع ذلك الولايات المتحدة إلى فرض قيود على التأشيرات وعقوبات على مسؤولين فنزويليين.
وفاقمت العقوبات الأزمة الاقتصادية، وبدأت فنزويلا تعاني نقصًا حادًا في الغذاء والدواء. وارتفع التضخم بشكلٍ كبير، وتزايدت الهجرة من البلاد على نحوٍ لافت.
2019: غوايدو والعقوبات القصوى
أُعيد انتخاب مادورو لولاية ثانية مدتها ست سنوات في مايو/ أيار 2018، رغم المقاطعة واتهامات التزوير في انتخابات لاقت استنكارًا واسعًا.
وأيّدت الإدارة الأميركية إعلان الجمعية الوطنية عدم شرعية انتخاب مادورو، واعترفت بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيسًا مؤقتًا. ومع ذلك، احتفظ مادورو بدعم دولٍ كبرى، بينها الصين وكوبا وروسيا وتركيا.
وأدى هذا المأزق السياسي إلى زيادة العقوبات الأميركية على حكومة مادورو، بما في ذلك استهداف شحنات النفط إلى كوبا حليفة فنزويلا، فضلًا عن التلويح بعقوبات على أطراف ثالثة مرتبطة بقطاع النفط الفنزويلي.
ودعمت روسيا والصين حليفتَهما اللاتينية وساعدتا مادورو على الالتفاف على العقوبات. وفي المقابل، ظل سجل مادورو في مجال حقوق الإنسان مصدر قلقٍ دائم لواشنطن.
العقوبات الأميركية على النفط الفنزويلي
بحلول عام 2017، بلغت العقوبات الأميركية على قطاع النفط الفنزويلي ذروتها، وترافقت مع قيود مالية منعت كاراكاس من الوصول إلى أسواق الائتمان، وحظرت شراء ديونها، ما فاقم التدهور الاقتصادي وساهم في تسريع موجات التضخم والانكماش.
ورغم الضغوط والعقوبات المتزايدة في مطلع عام 2019، تمكن مادورو من الحفاظ على قبضته على السلطة، بل وتعزيزها. وفي عام 2020، وجّهت وزارة العدل الأميركية اتهامات رسمية لمادورو بالاتجار بالمخدرات.
وتراجع الدعم الدولي لـ”الرئيس المؤقت” غوايدو، إذ حذت إدارة بايدن حذو المعارضة الفنزويلية في سحب الاعتراف به زعيمًا شرعيًا لفنزويلا. في المقابل، تحسّنت مكانة مادورو دوليًا إلى حدّ ما، إذ استأنف مسؤولون غربيون الحوار، واستفاد من انتخاب قادة أكثر ودًا له في المكسيك وكولومبيا والبرازيل.
2024: انتخابات متنازع عليها وعودة الضغط
في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، حاولت المعارضة العودة إلى صناديق الاقتراع بعد سنوات من المقاطعة، على قاعدة تفاهمات تُفضي إلى تخفيفٍ تدريجي للعقوبات إذا جرت انتخابات “حرة ونزيهة”.
لكن اتهامات واسعة لاحقت العملية الانتخابية، من منع مراقبين مستقلين إلى تضييق على مرشحين بارزين، ما دفع واشنطن إلى إعادة فرض العقوبات، فيما انقسمت المواقف الدولية بين من يقرّ بالنتائج ومن يمنح مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس صفة “الرئيس المنتخب”.
فقد أدانت الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي ودول وهيئات دولية أخرى الانتخابات، ووصفتها بأنها غير حرة وغير نزيهة. وفي المقابل، اعترفت جهات عدة بمرشح المعارضة إدموندو غونزاليس “رئيسًا منتخبًا”.
حملة ضد تجّار المخدرات
أعلنت المدّعية الأميركية بام بوندي في 7 أغسطس/ آب 2025 مكافأة قدرها 50 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو(6).
وقالت بوندي إن مادورو “أحد أقوى تجّار المخدرات في العالم ويشكّل تهديدًا للأمن القومي” للولايات المتحدة. واعتُبر هذا الإعلان مقدمة لتصعيد أميركي في الكاريبي، بالتوازي مع نشر واشنطن سفنًا بحرية.
وفي أغسطس/ آب نفسه، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمرًا تنفيذيًا يتيح توسيع استخدام القوات الأميركية بذريعة “مكافحة عصابات المخدرات” في أميركا اللاتينية. وردّ مادورو بإعلان تعبئة 4.5 ملايين فرد داخل البلاد استعدادًا لصد أي هجوم محتمل.
كما أثارت الهجمات التي نفذها الجيش الأميركي ضد قوارب في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، بذريعة تهريب المخدرات، وما تضمنته من استهداف مباشر للأشخاص على متنها، جدلًا بشأن “عمليات القتل خارج نطاق القانون“.
حصار بحري وجوي
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعلن ترمب أن المجال الجوي فوق فنزويلا وحولها سيُغلق بالكامل(7).
وأفادت صحيفة “ميامي هيرالد” الأميركية في 1 ديسمبر/ كانون الأول بأن ترمب طلب من نظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو، خلال مكالمة هاتفية، أن “يستقيل فورًا ويغادر البلاد”.
واحتجزت الولايات المتحدة ناقلة نفط خاضعة للعقوبات قبالة سواحل فنزويلا، ما أدى إلى تصعيد التوتر بين البلدين.(9)
وفي 17 ديسمبر/ كانون الأول، أعلن ترمب أمرًا بفرض “حصار” يمنع جميع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات من دخول أو مغادرة فنزويلا، وهو ما وصفته الأخيرة بأنه “غير عقلاني ويهدف لسرقة ثرواتها“. كما طلبت فنزويلا من مجلس الأمن الدولي عقد اجتماع لمناقشة “العدوان الأميركي المستمر“.(10)
المراجع
-
خوان ظهير نارانخو كاسيريس؛ شانون برينكات، “Why is Trump so obsessed with Venezuela? His new security strategy provides some clues”، The Conversation، 9 ديسمبر/ كانون الأول 2025. Tolerance
-
إدريس علي؛ مات سبيتالنيك؛ جيمس ماكنزي، “Trump strategy document revives Monroe Doctrine, slams Europe”، Reuters، 5 ديسمبر/ كانون الأول 2025 (محدّث 7 ديسمبر/ كانون الأول 2025). Reuters
-
مكتب المؤرخ (Office of the Historian)، “Venezuela Boundary Dispute, 1895–1899″، U.S. Department of State – Milestones (منصة متقاعدة وغير مُحدَّثة وفق تنبيه الصفحة)، دون تاريخ نشر محدَّد على الصفحة. Office of the Historian
-
الأرشيف الوطني الأميركي (National Archives)، “Theodore Roosevelt’s Corollary to the Monroe Doctrine (1905)”، National Archives، (آخر مراجعة للصفحة: 8 فبراير/ شباط 2022). National Archives
-
مجلس العلاقات الخارجية (CFR)، “Instability in Venezuela”، Global Conflict Tracker، (تاريخ التحديث يظهر على صفحة الأداة؛ يُستحسن إدراجه كما هو في موقع CFR عند إدخال المرجع في نظام النشر). Council on Foreign Relations
-
وزارة الخارجية الأميركية، “Reward Offer Increase of Up to $50 Million for Information Leading to Arrest and/or Conviction of Nicolás Maduro Moros”، U.S. Department of State، 7 أغسطس/ آب 2025. State Department+1
-
(ملاحظة تحريرية صغيرة: صفحة State.gov قد تُقيِّد الوصول أحيانًا من بعض الشبكات، لكن بيانات العنوان والتاريخ ظاهرة في نتائج البحث أعلاه).
-
“Trump confirms conversation with Venezuela’s Maduro”، Reuters، 1 ديسمبر/ كانون الأول 2025. Reuters
-
“US pressures Maduro to leave Venezuela amid land threat”، Miami Herald، 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025. Miami Herald
-
إدريس علي؛ فيل ستيوارت؛ نولان دي. مكاسكيل، “Exclusive: US intercepts oil tanker off Venezuelan coast, officials say”، Reuters، 21 ديسمبر/ كانون الأول 2025 (عن واقعة مؤرخة في المتن: 20 ديسمبر/ كانون الأول 2025). Reuters
-
“Trump orders ‘blockade’ of sanctioned oil tankers leaving, entering Venezuela”، Reuters، 16 ديسمبر/ كانون الأول 2025.
