![]()
زمااااان في الستينات ونحن أطفال، عندما تأتي عائلة من الخرطوم كنت اتخيل أنهم أتوا من كوكب آخر. ثيابهم نظيفة وأحذيتهم لامعة. رائحة الصابون طاقة. أطفالهم يجلسون معنا في الحوش يتحدثون بثقة ونحن صامتون، يحكون عن شوارع الظلط وعن السينما والكهرباء. نحدق فيهم بإعجاب صامت، نحسبهم أكبر من أعمارهم، وأقوى من آبائنا الذين ارهقتهم الأرض.
كانوا يجلبون لنا الحلوى ويمنحوننا حلماً اسمه الخرطوم. وعند مغادرتهم القرية يبقى الغبار، ويبقى في صدورنا حنين مبكر لمدينة لم نرها بعد، أحببناها؛ لأنهم جاؤوا منها.
نفس هؤلاء الأطفال اليوم، مازالوا طيبين لكنهم مرهقون، قساة لكنهم خائفون.. صامتون.. ليسوا كمان كانوا، الحرب أعادت تشكيلهم بأيدِ خشنة. يخافون من صوت الباب ومن الهاتف، من الذاكرة والذكريات. الخرطوم تحاول أن تتذكر نفسها. َتمسح الغبار عن ضحكتها القديمة.
الذين كانوا يلبسون الخرطوم بالليل، اليوم يعيشون صدمة جماعية طويلة الأمد. وتغيَّر السلوك اليومي إلى العصبية المفرطة والتبلد الشعوري وقسوة الكلام. هذه ليست أخلاقا جديدة، بل آليات دفاع نفسية. في الخرطوم اليوم؛ لا دولة ولا عدالة ولا أفق واضح بل؛ فراغ وجودي، كراهية متبادلة.. تخوين.. عنف لفظي.. الحرب كسرت الإيقاع والتسامح وخفة الدم والحياة العامة، فظهر الحنين المؤلم والاكتئاب الصامت والإحساس بأنَّ ( المدينة تنزف)..