![]()
في نهايةٍ محتومةٍ لإمبراطورٍ لم يتردّد في سفك الدماء وتعليق المشانق وإقامة المذابح في مصر وفلسطين، انتهى الحال بنابليون بونابرت، صاحب الحملة الاستعمارية على مصر، في 4 أغسطس/ آب 1815 على متن سفينة “نورثمبرلاند” التي حملته إلى منفاه الأخير في جزيرة سانت هيلانة النائية في المحيط الأطلسي.
وعندما سأل نابليون مساعده: “ماذا يمكن أن نفعل في هذا المكان الذي لا يمكن الوصول إليه؟”، ردّ المساعد: “مولاي، سوف نعيش على الماضي، ويُوجد فيه ما يرضينا”.
وفي أحد الأيام، كتب نابليون لزوجته جوزفين: “عندما أنتهي من حروبي سأترك الحربة وأستبدلها بالقلم وأكتب عن مجدي”.
بهذه الكلمات، ترسّخت قرارات نابليون نحو عهدٍ جديد لكتابة مذكّراته، ليكون المنفى المكان الذي توقّف فيه صدى الأحداث وسكتت فيه أصوات المدافع وتوقّف بعده الترحال؛ فلا خوذة حرب ولا تاج مُلك، وذكريات تحكي للعالم سيرةً ذاتيةً مغلّفة بطابعٍ تأريخي، متجنّبًا الحديثَ المباشر عن نفسه، ليُحاكي صوتَ المؤرّخ الخارج عن الأحداث. وكانت الحملةُ العسكرية على مصر والشرق واحدةً من أهمّ ما كتبه نابليون في مذكّراته.
ويقول تيري لينتز، المؤرخ ومدير “مؤسسة نابليون” التاريخية، في حديثٍ لبرنامج “مذكّرات” من “التلفزيون العربي”، إنّ مذكرات نابليون بونابرت لم تكتمل لأنه لم يكن لديه الوقت للكتابة طوال حياته، مضيفًا أنّ من أهمّ المجلّدات التي استطاع كتابتَها هي المذكّرات التي كتبها عن الحملة على مصر باعتبارها “مغامرة غير عادية لجيله بأكمله”.
من جهته، يكشف ناصر أحمد إبراهيم، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة قطر، أنّ بونابرت أنجز في المنفى مذكّراته عن حملته على مصر، وحملته على إيطاليا، وحرب “المئة يوم”، حيث كان أمام حدثٍ مهمّ وغير سارّ في تاريخه، وهو أنّ جيشه هُزم في مصر، وهو مَن يتحمّل مسؤولية هذا الفشل. ويضيف أنّ بونابرت أراد كتابة مذكّراته من إيمانه بأنّ “التاريخ مجموعةٌ من الأساطير متّفقٌ عليها”، وبالتالي فإنّ كتابتها على شكل أسطورة حوّلت الهزيمة إلى نصر.
بداية حملة نابليون بونابرت على مصر
في شتاء 1797، بدأ نابليون سرًا في إعداد جيشه للحملة على مصر. وعن هذه اللحظة، كتب بونابرت في مذكّراته:
“أيها الجنود، ستوجّهون إلى إنكلترا ضربةً مؤثّرة في الصميم، بانتظار الضربة القاضية عليها. وسوف تُحقّقون النصر في كلّ مبادراتكم، فالأقدار في صالحكم”.
ويوضح لينتز في هذا السياق، أنّ الحملة على مصر كانت “مهمةً في السياسة الخارجية لفرنسا وفي الحياة الشخصية لنابليون بونابرت، لأنه تولّى بعدها السلطة في فرنسا على الفور”. ويضيف أنّه “بالنسبة للسياسة الخارجية الفرنسية، لم يكن الهدف احتلالَ مصر في حدّ ذاتها، بل قطع طريق التجارة مع الهند على إنكلترا، لأنّ إنكلترا وفرنسا كانتا في حالة حرب، وكانت إنكلترا تستفيد كثيرًا من تجارتها مع الهند”.
أما هنري لورنس، الباحث والمؤرّخ الفرنسي، فيلفت في حديث إلى “التلفزيون العربي”، إلى أنّه “كان لدى الفرنسيين قناعةٌ صحيحة بأنّ مصدر قوة إنكلترا يكمن في السيطرة على الهند؛ لذلك فإنّ غزو مصر سيُمكّن فرنسا من التمركز وجهًا لوجه مع إنكلترا، ثمّ مهاجمتها عبر المحيط الهندي وتوجيه ضربة قاتلة للقوات البريطانية”. ويضيف أنّ هذا كان “السبب الرئيسي لغزو مصر، وقد أدرك الإنكليز ذلك جيّدًا وأخذوا هذا التهديد بجدية”.
فتح مصر وغزو الإسكندرية
في مايو/ أيار 1798، انطلق الأسطول الكبير في عرض البحر متّجهًا إلى مالطا التي سقطت بيده بسهولة، ثمّ استأنف الطريق إلى مصر، بينما حاولت البحرية البريطانية رصدَ البحر لمعرفة وجهة نابليون بهذا الأسطول البحري، إلا أنّ أسطول نابليون تمكّن من الإفلات من المراقبة.
ويوضح إبراهيم أنّ المراقبة البريطانية كانت السبب الرئيس الذي دفع بونابرت إلى الإعداد لحملته على مصر بسرّية؛ إذ اتُّخِذ القرار في مارس/ آذار 1798، وأوهم الفرنسيون بريطانيا أنّهم يُعدّون أسطولًا ضخمًا وجيشًا قويًا لغزوها، بينما وجهتهم الحقيقية هي البحر المتوسّط والإسكندرية.
وفي 1 يوليو/ تموز، وصل الأسطول الفرنسي إلى الإسكندرية. وحشد محمد كُرَيم، حاكم الإسكندرية، قواته لمواجهة قوات نابليون، لكنّه لم يكن يملك جيشًا يُؤهّله لمحاربة القوات الفرنسية الغازية. وبعد مقاومة استمرّت ساعات، اضطر محمد كُريم إلى الاستسلام في النهاية.
ويعزو لينتز سرعةَ التقدّم الفرنسي إلى الاختلاف بين تنظيم الجيشين (الفرنسي والمملوكي) واستخدامهما للسلاح: فجيش المماليك كان يضمّ فرسانًا أشدّاء يُحبّون سلاح الفرسان، لكنّهم لا يستخدمون المدفعية ولا يملكون مشاةً منظّمين مثل الجيش الفرنسي؛ ولهذا السبب كان فتحُ مصر (بداية الحملة) سهلًا نسبيًا لأنّ هذا الجيش الفرنسي لم يجد خصمًا بإمكانه أن يتغلّب عليه.
وعن غزوه الإسكندرية، كتب بونابرت في مذكّراته:
“طوبى ثمّ طوبى لأهل مصر الذين يتّفقون معنا، وطوبى للذين لا ينحازون! وسيجدون الوقت الكافي ليعرفونا. لكن الويل للسفهاء الذين سيحملون السلاح ضدّنا! فسوف يهلكون. وإنّ القرى التي تريد الحماية سوف ترفع أعلى مآذن الجامع الرئيس علم الصدر الأعظم وعلم الجيش الفرنسي، وسيُعامَل سكان القرى الذين يعتدون على الجيش معاملةً عسكرية، وسيُحرقون بالنار إذا لزم الأمر”.
الطريق إلى القاهرة
من الإسكندرية، شقّ نابليون طريقه إلى القاهرة. ولعلمه المسبق بشجاعة المماليك وجسارتهم، وإدراكًا منه أنّ المواجهة قد تكون قاسية، استعدّ للمعركة بتنظيم قوات المشاة في تشكيلاتٍ مستطيلة عملاقة، مع وضع المدفعية في كلّ زاوية. أمّا الأسطول الفرنسي فكان يستعدّ في النيل لملاقاة أسطول المماليك الأصغر حجمًا. ودارت معركة حامية برًا وبحرًا بالقرب من قرية شبراخيت. ولم يتمكّن المماليك في هذه المعركة من اختراق جيش نابليون، فانهزم الجيش بقيادة مراد بك، وانسحبوا لتنظيم صفوفهم.
وفي هذا الإطار، يوضح لورنس أنّ “التفوّق العسكري الأوروبي في نهاية القرن الثامن عشر كان هائلًا، وبرز ذلك بوضوح في الحروب بين الدولة العثمانية وروسيا والنمسا انطلاقًا من عام 1768. وكان الجيش الفرنسي الذي استقرّ في مصر جيشًا محترفًا منخرطًا في الحرب منذ ستّ سنوات، وجزءًا كبيرًا من الجيش الذي قام بالحملة الإيطالية مع بونابرت؛ لذلك لم يكن بإمكان أيّ جيشٍ عثماني أن يُقاوم القوة التقنية للجيش الفرنسي”.
من جهته، يقول إبراهيم: “بعد سيطرتهم على الإسكندرية ومواجهتهم المماليك عند شبراخيت بالقرب من دمنهور، بدأ الجنود يتساءلون عن السبب الذي زُجّ بهم لأجله في الحرب، واتّهموا الحكومة بأنّها أرادت نفي هذا الجيش ودفنه في رمال مصر. وقد قرّر بعضهم الانتحار، وألقوا بأنفسهم في النيل للتخلّص من بونابرت لأنه يبني مجدًا شخصيًا على حسابهم”.
وفي هذا الإطار، كتب بونابرت في مذكّراته:
“لقد أصاب الجيشَ موجةٌ من الاكتئاب الغامض، ولم يكن بوسع شيءٍ أن يقهرها. غلب عليه الحنين، وألقى عددٌ من الجنود بأنفسهم في النيل حتى يجدوا فيه موتًا عاجلًا”.
في صباح 21 يوليو/ تموز، وصل زحف الجيش الفرنسي بقيادة نابليون إلى القاهرة، والتقى مجددًا بجيش المماليك بقيادة مراد بك وإبراهيم بك عند منطقة إمبابة، وهي المعركة التي أطلق عليها نابليون اسم معركة “الأهرامات”.
في هذه المعركة، انهزم المماليك، وانسحب مراد بك ومعه ثلاثة آلاف حصان إلى الجيزة، وحاول معاودة الهجوم عدّة مرات لكنّه فشل، واضطر في النهاية إلى الانسحاب بجنوده إلى صعيد مصر. أمّا إبراهيم بك، فانسحب ومعه نحو 1200 جندي إلى سوريا، ليدخل نابليون القاهرة منتصرًا.
وعن ذلك، يقول لورنس: “بعد المعركة، والتي لم تكن حربًا حقيقية، انسحب المماليك من سوريا ووادي النيل الأعلى. وقاوم مراد بك، الذي يسيطر على وادي النيل الأعلى، لمدة سنتين، قبل أن يتفوّق عليه كليبر، خليفة بونابرت، تاركًا بذلك صعيدَ مصر للمماليك الذين تصرّفوا بشجاعة، بخلاف الإمبراطورية العثمانية التي لم تملك الجرأة على مواجهة القوات الفرنسية رغم الدعم البريطاني”.
ما هو موقف نابليون بونابرت من الإسلام؟
بحسب ناصر أحمد إبراهيم، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة قطر، فإنّ فولني، الرحّالة الفرنسي الذي زار مصر قبل بونابرت، كتب أنّ “مَن يُريد السيطرة على مصر عليه أن يخوض ثلاثَ حروب: أولها مع الدولة العثمانية، وثانيها ضدّ المماليك، وثالثها ضدّ الدين وهي أشدّهنّ صعوبة”. وانطلاقًا من ذلك، قال بونابرت إنّه لا يحتاج إلى محاربة الدين الإسلامي بل إلى استيعابه.
وكتب بونابرت في هذا الإطار:
“يا أهل القاهرة، إنّني راضٍ عن مسلككم، ولقد جئتُ للقضاء على جنس المماليك وحماية التجارة وأهالي البلاد. فليطمئنّ كلّ من انتابه الفزع، وليرجع كلّ من رحل إلى بيته. ولتُقم الصلاة اليوم كالمعتاد. لا تخافوا من شيءٍ على عائلاتكم وبيوتكم وممتلكاتكم، وبصفة خاصة لا تخافوا على دين النبي الذي أُحبّه”.
وعن هذا الأمر، يتحدّث لينتز قائلاً: “عندما وصل الفرنسيون إلى مصر، أمر نابليون على الفور باحترام الدين الإسلامي. لم يأتِ لفتحٍ ذي طابعٍ صليبي، أي لم يكن هناك أيّ جانب ديني للحملة. وطالب نابليون جنودَه باحترام دين الشعب المصري، وهذا ما حدث عمومًا”. ويضيف أنّ الجنود “كانوا في معظمهم مناهضين للدين، وارتكب الفرسان والمشاة تجاوزاتٍ واعتداءاتٍ واحتلالًا للمساجد، لكنّ بونابرت أمر فورًا بالانسحاب من الأماكن الدينية لأنّ مشكلته لم تكن دينية على الإطلاق”.
وفي هذا السياق، يكشف إبراهيم أنّ بونابرت كتب فصلًا من مذكّراته تحت عنوان “شؤون إسلامية”، يشرح فيه كيف قرأ الدين الإسلامي، وأنّه مسلم؛ على الرغم من أنّه كتب فيما بعد أنّه كان “كاثوليكيًا في روما، ومسلمًا في مصر”، وأنه “لو حكم شعبًا عبرانيًا لأعاد بناء هيكل سليمان وصار يهوديًا”.
من جهته، يشير لورنس إلى أن نابليون أظهر خلال حياته أنّه “صديقٌ للمسلمين”، ففي صغره قرأ القرآن بالترجمة الفرنسية، واطّلع على كتبٍ جيدة انتشرت في أوروبا حول الإسلام والعالم وكانت باللغة الفرنسية، إذ كان لديه شغفٌ بهذا الجانب من العالم. ويتابع: “هل كان نابليون يؤمن بالله؟ أعتقد أنّه لم يكن يُخفي إسلامه، وكان بإمكانه أن يكون مسلمًا في العلن”.
لماذا أدخل بونابرت مطبعة وبعثة علمية إلى مصر؟
في حملته على مصر، لم يترك نابليون شيئًا للصدفة. حمل معه مطبعةً لكتابة وطباعة المنشورات التي تُوزَّع على أهالي القاهرة، وهي أول مطبعة تصل إلى مصر، كما حمل بعثةً علمية كبيرة من العلماء والمهندسين والباحثين الذين عملوا على دراسة مصر والآثار المصرية على وجه الخصوص، لتُصبح حملة نابليون أكثر من مجرد حملةٍ عسكرية.
وفي هذا الإطار، يقول لينتز: “منذ أن استقرّ الفرنسيون في مصر، أولى العلماءُ الكثيرَ من الاهتمام للآثار المصرية. وكانت جميع المسوحات والرسومات والدراسات التي تمّ إجراؤها في الموقع بمثابة نشرٍ لعملٍ ضخم يُسمّى “وصفُ مصر”، والذي لا يزال بإمكان العلماء اليوم استخدامُه، لأنّ كثيرًا من العناصر التي وصفها العلماء الفرنسيون قد اختفت الآن”.
بدوره، يقول لورنس إنّ كتاب “وصف مصر” جمع الأعمالَ الكبيرة لعلماء البعثة العلمية الفرنسية: من الدراسات الطبيعية التي لعبت دورًا في تطوّر المعرفة في أوروبا بخصوص الحياة البرّية والنباتات، بوصفها أولَ دراسةٍ منهجية تُجرى في بلدٍ إفريقي، إلى علم المصريات، حيث كانت تلك المرّة الأولى التي تُجرى فيها دراسةٌ منهجية للشخصيات الدينية الفرعونية مع مسحٍ للأماكن ووصفٍ للأشياء وما إلى ذلك.
من جهته، يلفت إبراهيم إلى أنّ “البعثة العلمية” ضمّت 168 عالمًا من تخصّصاتٍ متعدّدة في الهندسة والطب والفنون والآداب والرياضيات، مشيرًا إلى أنّ نابليون بونابرت استعان بهذه البعثة من أجل “استنزاف البلد الذي سيستعمره في أقلّ مسافةٍ زمنية ممكنة”.
معركة أبو قير البحرية
بعد سلسلة انتصارات نابليون في مصر، جاء اليوم الذي لم يخطر بباله. ففي 1 أغسطس/ آب 1798، هاجمت القواتُ البحرية الإنكليزية بقيادة الأميرال نلسون في خليج أبو قير بالإسكندرية الأسطولَ الفرنسي الذي لم يكن مستعدًا للقتال.
ورغم محاولاته للدفاع عن نفسه، إلا أنّ عنصر المفاجأة رجّح كفّة الأسطول البريطاني، ما أدّى إلى تدمير الأسطول الفرنسي وقطع الطريق على أيّ إمداداتٍ أو تعزيزاتٍ محتملة. فعُزل نابليون بونابرت وجيشُه عن فرنسا، لكنه رغم ذلك لم ييأس، بل وقف يخطب في جنوده بحماسةٍ بالغة.
وكتب بونابرت في مذكّراته:
“إنّ ما حدث سيضطرّنا إلى أن نقوم بأعمالٍ عظيمة، وسوف نقوم بها. تأسيسُ إمبراطوريةٍ عظمى، وسوف نؤسّسها. إنّ بحارًا لا نهيمن عليها تفصلنا عن الوطن، ولكن لن يفصلنا أيّ بحرٍ عن إفريقيا ولا عن آسيا”.
وفي هذا الإطار، يصف لورنس معركةَ أبو قير البحرية بأنّها “كانت بمثابة ضربةٍ قاسية؛ إذ تمّ تدمير جزءٍ كبير من الأسطول الفرنسي، ووجد بونابرت نفسه معزولًا عن أوروبا؛ فلم يعد بإمكانه تلقّي التعزيزات، ولا إرسال قواته إلى أوروبا”. ومن جهته، يشير لينتز إلى أنّ الجيش الفرنسي تعرّض لعزلةٍ كاملة بعد هزيمة أبو قير، حيث لم يعد بإمكانه تلقّي التعزيزات والمعدّات، وبدأ الجيشُ يتقلّص تدريجيًا.
وعن هذه المعركة، يتحدّث خالد فهمي في كتاب “القاهرة المؤرَّخة”، فيشير إلى أنّ الفرنسيّين رأوا أنّ الحارات العديدة، بما فيها من دروبٍ وسُككٍ متعرّجة ومقفلة، تُمثّل خطرًا أمنيًا على جيش الاحتلال؛ ولذلك قرّروا تجميعَ حارات القاهرة في ثمانية أخطاط، ووضعوا كلَّ خطٍّ تحت رئاسة قائدٍ عسكريٍّ فرنسي، كما قرّروا نزعَ بوابات الحارات. ووفقًا للكتاب، “جاء في إحدى يوميات الضباط الفرنسيين ما يلي: تزدحم الشوارع بعددٍ هائل من البوابات التي تفصل بين حارات المدينة المختلفة، وقد خشي القائد العام (أي بونابرت) من استخدام هذه البوابات في إحدى الثورات لوقف طريق تقدّم الجيش الفرنسي”.
ثورة القاهرة الأولى
في التاسع من سبتمبر/ أيلول 1798، أعلنت الدولة العثمانية الحربَ على فرنسا، وانتفضت القاهرة ضدّ نابليون فيما يُعرف بـ”ثورة القاهرة الأولى”. قابلها نابليون بمزيدٍ من التدمير والقتل ليُخمدها؛ إذ قصف الجامعَ الأزهر بالمدفعية، ودخل جنودُه إلى الجامع على الخيول، وربطوا خيولَهم بقبلته ودمّروا محتوياته، ونهبوا ما وجدوه من ودائع، وألقوا بالكتب والمصاحف على الأرض وداسوها بأقدامهم.
وفي هذا الإطار، يذكر كتاب “تاريخ عجائب الآثار” للجبرتي: “كثيرٌ من الناس ذبحوهم، وفي بحر النيل قذفوهم، ومات في هذين اليومين وما بعدهما أممٌ كثيرة لا يُحصي عددَها إلا الله. وطال بالكفرة بغيُهم وعنادُهم، ونالوا من المسلمين قصدَهم ومرادَهم”. وفي السياق نفسه، يقول إبراهيم: “لم تنطلِ على المصريين هذه الخدع؛ كانوا ينظرون إلى جيش الاحتلال على أنّه جيشٌ من الكفّار الملحدين المحتلّين”.
وكتب بونابرت في مذكّراته عن هذا الأمر:
“لقد تمّ الهجوم على الجامع الأزهر وسالت فيه الدماء؛ فاذهبوا وطهّروه. وقد استولى جنودي على الكتب المقدّسة، لكنّهم اتفقوا مع رأيي وأعادوها إليّ، وأنا ذا أردّها إليكم. إنّ مَن ماتوا قد أشبعوا غليلي. فقولوا لأهالي القاهرة إنّني أودّ أن أستمرّ رؤوفًا رحيمًا”.
ويقول لينتز: “بعد اندلاع انتفاضة القاهرة في أكتوبر/ تشرين الأول 1798، لم تكن العلاقة التي ربطت نابليون بهؤلاء السكّان علاقةً وثيقة مثل تلك التي كانت لديه في البلدان الأخرى التي حكمها لاحقًا”.
أما إبراهيم، فيشير إلى أنّ “المقاومة ظلّت مستمرة: من ثورة القاهرة الأولى إلى ثورة القاهرة الثانية، وفي الإسكندرية وسائر الأقاليم، من ريف مصر أقصاها إلى أقصاها”.
حصار عكا
عندما سمع نابليون بونابرت أنّ العثمانيين يُعدّون جيشًا لاستعادة مصر، قرّر مواجهتَهم قبل وصولهم إليها، فانطلق نحوهم في فلسطين. استولى على قلعة العريش، وعبر صحراء سيناء، وسيطر على غزّة، ووصل إلى يافا فوجدها مُحصّنة؛ غير أنّ المهندسين الفرنسيين تمكّنوا من صنع ثغرةٍ في حصنها، فاندفع جنود نابليون من خلالها، وقاموا بقتل أعدائهم طوال ذلك المساء. وفي صباح اليوم التالي، قُتل الرجال والنساء والأطفال، مسيحيون ومسلمون على السواء.
واصل الغزاةُ مسيرتَهم، وفي 18 مارس/ آذار 1799 وصلوا إلى مدينة عكّا شديدة التحصين. وأثناء الحصار، باغت الطاعونُ الدبليّ جنودَ نابليون، كما تلقّى حاكمُها أحمد باشا الجزار تعزيزاتٍ وتحسيناتٍ من القوات البريطانية، ما أفقد نابليون الأمل في الاستيلاء على المدينة.
الهروب من مصر
في 17 مايو/ أيار 1799، رفع نابليون الحصارَ عن عكّا، وعاد بجيشه إلى القاهرة. ثمّ جمع جنودَه لملاقاة الجيش العثماني في أبو قير في 25 يوليو/ تموز؛ فاشتبك معهم، وكانت تلك آخرَ انتصاراته في مصر، وبدت البلاد آمنةً له، لا خوف عليها من الإنكليز والعثمانيين في المدى القريب.
وكتب نابليون في مذكّراته:
“لم يعد القائدُ العام يفكّر إلا في وسيلة العود إلى فرنسا؛ فلم تعد ثمّة أيّ أهمية لكلٍّ من سوريا والجليل وفلسطين. لا بدّ من عودة الجيش إلى مصر التي لم يكن يُقهَر فيها؛ عندئذٍ يمكن تركُه وإلقاء النفس في خضمّ هذا المحيط من الأحداث التي تُعرَض على أفكاري”.
وعن ذلك، يقول لينتز: “في أواخر عام 1799 قرّر نابليون العودة إلى باريس، وتخلّى عن جيشه قليلًا؛ إذ تركه في أيدي قادةٍ كانوا مجرّدَ جنود”. وبدوره يوضح إبراهيم أنّ بونابرت “هرب من مصر وترك الجيش في أسوأ حالاته، مستوليًا على كلّ الأموال في الخزانة، من دون دفع رواتب الجنود لأكثر من خمسة أشهر؛ فكان الجيش على وشك التمرّد والثورة، فيما كان حنين الجنود إلى العودة للوطن جارِفًا مع اليأس من البقاء في مصر بلا هدف”.
ثورة القاهرة الثانية
بعد رحيل نابليون إلى فرنسا، تولّى كليبر حكمَ مصر، وانتصر على العثمانيين في معركة “هليوبوليس” في مارس/ آذار 1800، ثمّ اندلعت بعدها “ثورة القاهرة الثانية” من أحياء بولاق واستمرّت قرابة شهر، لكن كليبر تمكّن من القضاء عليها وأخمدها بمدافعه. واستمرّ كليبر في استفزاز مشاعر المصريين حتى قُتل طعنًا بيد سليمان الحلبي في يونيو/ حزيران 1800.
وفي هذا السياق، يقول لورنس: “كان الجيشُ الفرنسي متعبًا في مصر ومحبطًا بعد ثلاث سنوات، خاصةً بعد رحيل بونابرت. وقد أدّى فشل المفاوضات بين كليبر والإنكليز والعثمانيين إلى اندلاع الحرب سنة 1801. ولم يكن الفرنسيون راغبين في القتال، لعلمهم بقرب انتهاء الحرب في أوروبا، وأنّ عودتهم إلى فرنسا تستلزم موافقةَ الإنكليز. وكان هذا سببَ استسلام القاهرة والإسكندرية”.
وخَلَفَ كليبرَ الجنرالُ مينو الذي لم يستطع إنقاذ الحملة، واضطرّ للاستسلام في 31 أغسطس/ آب 1801. فعاد الجيش الفرنسي إلى وطنه بعد ثلاث سنواتٍ من الحملة على مصر، “وهو يجرّ أذيال الخيبة والخسارة”.
ويقول لينتز: “نابليون جنديّ يعرف السياسة، بخلاف خلفائه الذين افتقدوا تلك المهارة؛ ومن ثَمّ تضاءلت مواردهم تدريجيًا ليستسلم جيشُ مصر للإنكليز. وقد نصّت اتفاقيةُ الاستسلام على أن يقوم الإنكليز أنفسهم بإعادة الجنود الفرنسيين إلى أوروبا، وهو ما حصل بالفعل عام 1801”.
بعد أن غادر نابليون بونابرت مصر عائدًا إلى بلاده، تولّى حكمَ فرنسا ثم تُوّج إمبراطورًا عليها، محاولًا استعادة مجده السابق.
حكم ومنفى قبل الوفاة
بحلول عام 1814، كان حكمُ نابليون يقترب من نهايته بسبب الخسائر الهائلة التي مُني بها. وجاءت هزيمتُه القاسية في معركة “واترلو” عام 1815، فنُفي على إثرها إلى جزيرة سانت هيلانة التي باتت مقرَّه ومنفاه الأخير. هناك بدأ يؤرّخ للحروب والأحداث الصاخبة والانتصارات والهزائم والدماء التي سُفكت من أجل مجده الشخصي، حتى وافته المنية عام 1821.
وكتب بونابرت في مذكّراته:
“هذا المقام ليس مريحًا. كان من الأفضل لي لو بقيتُ في مصر؛ لكنتُ الآن إمبراطورًا على كلّ الشرق”.
وبحسب ما يقول لينتز، فقد “قدّم نابليون للشعب الفرنسي حلمًا قديمًا تمثّل في السيطرة على أوروبا، وربّما السيطرة على العالم”. أما لورنس فيؤكد أنّ “نابليون ليس شخصًا عاديًا، بل حلقة معقّدة للغاية في تاريخ فرنسا وأوروبا والعالم”.
وعن ذلك، كتب الجنرال شارل ديغول: “لقد استنزف نابليون عزيمة الفرنسيين الصادقة، وأساء استعمال تضحياتهم، وملأ أوروبا بالقبور والرماد والدموع. ومع ذلك، فإنّ هؤلاء الجنود أنفسهم، والذي سبّب معاناتهم، قد أجزلوا له الوفاء. وعلى الرغم من مضيّ الوقت، والعواطف المختلفة، وأحزان الحداد الحديثة، فإنّه في أيّامنا هذه لا تزال الجماهير تأتي من أقاصي المعمورة لاستعادة ذكراه، والاستسلام بالقرب من مقبرته لرعشةِ العظمة”.
وفي هذا الإطار، يقول إبراهيم: “إنّ رحيل نابليون مثّل حالةَ شغفٍ وولع في المجتمع الفرنسي كلّه، وأرادوا أن يقرؤوا عن الرجل الذي قاد فرنسا إلى حكم أوروبا كلّها”.
