بحر على حافة الانفجار: الكاريبي بين كارتيلات المخدرات وأساطيل واشنطن

بحر على حافة الانفجار: الكاريبي بين كارتيلات المخدرات وأساطيل واشنطن

Loading

تتجه الأنظار إلى البحر الكاريبي، الذي قد يتحول إلى بؤرة توتر جديدة في العالم، بعد أن دخلت الولايات المتحدة في “صراع مسلح” مع عصابات المخدرات، حسب زعم الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

يُعرَّف البحر الكاريبي بأنه حوض مائي استوائي شبه مغلق، تبلغ مساحته نحو 3.3 ملايين كيلومتر مربع. يحدّه من الغرب أميركا الوسطى، ومن الجنوب فنزويلا وكولومبيا، ويتصل بخليج المكسيك عبر مضيق يوكاتان في الشمال. كما تفصله كوبا وجزر الأنتيل الكبرى والصغرى عن المحيط الأطلسي من الشمال والشمال الشرقي، ويضم أكثر من 7000 جزيرة، وفق موقع “ساينس دايركت“.

هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي، إلى جانب ضعف الحكومات وتراجع فعالية الرقابة، جعل من منطقة الكاريبي ممرًا رئيسيًا للمخدرات منذ نحو نصف قرن. وقد زاد الطلب المتنامي على الكوكايين في أوروبا منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من أهمية المسار الكاريبي، ما دفع المتاجرين في دول مثل جمهورية الدومينيكان وجزر الكاريبي الهولندية إلى إنشاء شبكات واسعة لخدمة السوق الأوروبية.

كيف تطوّر نشاط الكارتيلات؟

في ثمانينيات القرن الماضي، كان تجار المخدرات الكولومبيون ينقلون ما يُقدَّر بـ15 طنًا يوميًا من الكوكايين إلى الولايات المتحدة. وبسبب موقعهم الحساس بين القارتين، شاركت مجموعات في منطقة الكاريبي بتسهيل عمليات التهريب، فبنت سمعة واسعة وثروات ضخمة، وفق “إنسايت كرايم“.

وبحلول منتصف الثمانينيات، أصبحت المنطقة محورًا رئيسيًا؛ إذ ضُبط فيها أكثر من 75% من إجمالي الكوكايين المهرَّب بين أميركا الجنوبية والولايات المتحدة.

برز في تلك المرحلة المهربان أوغستو غييرمو فالكون وسلفادور ماغلوتا، اللذان حوّلا ميامي إلى عاصمة لتجارة الكوكايين العالمية، وحققا ثروات هائلة قبل أن ينتهي المطاف بهما في الولايات المتحدة، حيث يقضي ماغلوتا اليوم حكمًا بالسجن المؤبد، بينما لا يزال مكان فالكون مجهولًا بعد إطلاق سراحه وترحيله عام 2017.

وفي سانت كيتس، فرض تشارلز ميلر نفوذه لسنوات طويلة، مستغلًا غياب الرقابة لتهريب الكوكايين دون أي مساءلة. وفي التسعينيات، قاد عمليات تهريب ضخمة من كولومبيا إلى الولايات المتحدة باستخدام شركة الشحن الجوي “أمريجيت”. وبعد تهديده بقتل طلاب أميركيين إذا جرى تسليمه، نُقل أخيرًا إلى الولايات المتحدة عام 2000 وحُكم عليه بالسجن المؤبد.

ما بين حاملة طائرات أميركية في الكاريبي وغواصات محمّلة بالكوكايين، يبدو أن البحر الاستوائي يتّجه نحو مرحلة مواجهة مفتوحة عنوانها المعلن “مكافحة المخدرات” وعنوانها المضمر صراع النفوذ.

أما في ترينيداد وتوباغو، فقد أسس نانكيسون بودرام، المعروف باسم “دول تشادي”، شبكة تهريب واسعة مستفيدًا من العنف وصلاته بمسؤولين نافذين.

ورغم الحملة الأميركية آنذاك على تجار المخدرات، استطاع البورتوريكي خوسيه فيغيروا أغوستو، المعروف بـ”جونيور كبسولة”، بناء إمبراطورية تهريب ضخمة في جمهورية الدومينيكان عبر شبكة علاقات مع مسؤولين ومتاجرين. سُجن عام 1993، لكنه فرّ من السجن عام 1999 قبل أن يُعتقل مجددًا عام 2010 ويُحكَم عليه بالسجن 30 عامًا، ويودَع في منشأة إصلاحية في ولاية إنديانا الأميركية.

وفي جامايكا، برز كريستوفر كوك المعروف بـ”دودوس”، الذي ورث قيادة عصابة “شاور بوس” سيئة السمعة، واستغل شبكتها لتهريب الكوكايين والماريجوانا إلى الولايات المتحدة وكندا. وبعد اعتقاله عام 2010، تفككت العصابة الكبيرة، وحلت محلها خلايا صغيرة متناثرة تُدير التهريب اليوم.

صعود السوق الأوروبية للكوكايين

مع توسع الطلب الأوروبي على الكوكايين، أصبحت منطقة الكاريبي مركزًا لوجستيًا أساسيًا. واستغل سيزار بيرالتا، الملقب بـ”المسيء”، جمهورية الدومينيكان كنقطة عبور رئيسية لشحن الكوكايين إلى أوروبا والولايات المتحدة.

وتصاعد نفوذه تدريجيًا حتى عام 2015 حين بات أحد أخطر تجّار المخدرات في منطقة البحر الكاريبي، حيث شبّهته سلطات جمهورية الدومينيكان بخواكين غوزمان لويرا، الملقب بـ”إل تشابو” المكسيكي سيئ السمعة.

وبحلول منتصف عام 2019، صنفت السلطات الأميركية بيرالتا تاجر مخدرات بارزًا بموجب قانون “كينغ بين”. ففرّ إلى كولومبيا حيث أُلقي القبض عليه وسُلّم إلى بورتوريكو. 

وفي كوراساو، تحوّل تايسون كوانت، زعيم عصابة “جنود بلا حدود”، إلى تاجر كوكايين دولي متورط ضمن شبكة يقودها البرازيلي سيرجيو روبرتو دي كارفاليو، الذي يُتهم بنقل نحو 45 طنًا من الكوكايين إلى أوروبا. وقد اعتُقل كوانت في دبي عام 2020 ولا يزال قيد الإقامة الجبرية.

الكارتيلات المكسيكية

تُعدّ كارتيلات المخدرات في المكسيك أكبر موردي الكوكايين والهيروين والميثامفيتامين وغيرها إلى الولايات المتحدة. وتُصنّف إدارة مكافحة المخدرات الأميركية “سينالوا” و”الجيل الجديد في خاليسكو” أخطر الكيانات الإجرامية، وفق موقع “مجلس العلاقات الخارجية“.

وتُعتبر “سينالوا” التي قادها سابقًا خواكين “إل تشابو” غوزمان، من أقدم الكارتيلات وأكثرها نفوذًا في المكسيك. لكن في عام 2017، سلمت السلطات المكسيكية غوزمان إلى الولايات المتحدة، حيث يقضي حكمًا بالسجن مدى الحياة بتهم متعددة تتعلق بالمخدرات.

أما “الجيل الجديد في خاليسكو” الذي انشق عن سينالوا عام 2010، فهو من أسرع الكارتيلات نموًا في المكسيك، ويُسيطر على ما يقارب ثلثي البلاد، وينشط بشدة في إنتاج وتهريب الفنتانيل.

كما تنشط كارتيلات أخرى في البلاد، منها “بلتران ليفا”، و”لوس سيتاس”، و”غيريروس أونيدوس”، و”غولفو”، و”هواريس”، وعائلة “ميتشواكان”، و”لوس روهوس”.

كارتيلات كولومبيا وفنزويلا

تركّز النشاط الكولومبي تاريخيًا حول كارتيلات “ميديلين” و”كالي” و”كلان ديل غولفو”، وهي الجهات الرئيسية المنتجة للكوكايين والمصدّرة له عبر الساحل الكاريبي نحو أميركا الشمالية وأوروبا.

أما دول الكاريبي الصغيرة مثل الدومينيكان، وبورتوريكو، وجامايكا، وترينيداد وتوباغو، وهايتي، ودومينيكا، فتشكّل عقد عبور تستخدمها الكارتيلات الكبرى لتخزين المخدرات أو إعادة شحنها.

وفي فنزويلا، ينشط ما يُسمّى “كارتيل ديل سوليس” و”ترين دي أراغوا”.

ووفق موقع “إل أوردن مونديال“، فإن “كارتيل ديل سوليس” ليس كارتيلًا تقليديًا، بل شبكة فساد داخل القوات المسلحة الفنزويلية تُسهّل تهريب المخدرات. ومع ذلك، يفتقر إلى التنظيم والتسلسل الهرمي والاستراتيجية التي تتميز بها هذه الهياكل الإجرامية. 

لكن وزارة الخزانة الأميركية تتهمه بأنه منظمة يقودها الرئيس نيكولاس مادورو وعدد من كبار المسؤولين، وتقدم دعمًا مباشرًا لمنظمات إجرامية تهدد أمن الولايات المتحدة، مثل “ترين دي أراغوا” و”سينالوا”.

وفي 25 يوليو/ تموز 2025، فرضت واشنطن عليه عقوبات وصنفته منظمة إرهابية.

أبرز الكارتيلات المحيطة بالبحر الكاريبي

  • كارتيل سينالوا (المكسيك):

    أحد أقدم وأقوى كارتيلات المخدرات في المكسيك، يمتلك شبكة تهريب تمتد من أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة وأوروبا، وينخرط في تجارة الكوكايين والهيروين والفنتانيل.

  • الجيل الجديد في خاليسكو (المكسيك):

    كارتيل صاعد انفصل عن سينالوا عام 2010، يُعتبر اليوم من أكثر الكارتيلات عنفًا وتوسعًا، ويُتهم بالسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي المكسيكية.

  • كلان ديل غولفو (كولومبيا):

    الوريث الأبرز لجزء من إرث كارتيل ميديلين، ينشط في إنتاج الكوكايين ونقله إلى الساحل الكاريبي قبل تهريبه إلى أميركا الشمالية وأوروبا.

  • كارتيل ديل سوليس (فنزويلا):

    شبكة نفوذ وفساد متداخلة مع قيادات في القوات المسلحة الفنزويلية، تُتهم بتسهيل تهريب الكوكايين عبر الأراضي والمياه الفنزويلية.

  • ترين دي أراغوا (فنزويلا):

    عصابة إجرامية عابرة للحدود، تمدّدت من فنزويلا إلى دول أخرى في أميركا الجنوبية، وتشكّل عنصرًا محوريًا في الاتجار بالمخدرات وجرائم منظمة أخرى.

  • كارتيل لا غوايرا (كولومبيا/منطقة الكاريبي):

    منظمة إجرامية يُشتبه بأنها توسّعت في منطقة البحر الكاريبي الكولومبية، مستفيدة من الفساد والتغلغل داخل بعض الأجهزة المحلية.

تصعيد عسكري أميركي في الكاريبي

تقول الولايات المتحدة إنها تحشد قواتها ضمن “جهد أمني متعدد الجنسيات” ضد الأنشطة البحرية المرتبطة بفنزويلا، وقد أعلنت وزارة الدفاع الأميركية وصول حاملة طائرات إلى سواحل أميركا اللاتينية.

وفي المقابل، تؤكد فنزويلا عبر وزير دفاعها فلاديمير بادرينو، أنها “تحب السلام”، لكنها ستدافع عن نفسها إذا اقتضت الحاجة، وقد نشرت بالفعل أنظمة دفاع جوي ووحدات بحرية على الساحل ونفّذت تدريبات دفاعية.

وتواجه حكومة مادورو منذ عام 2020 اتهامات أميركية رسمية بالاتجار بالمخدرات من وزارة العدل الأميركية، وقد وصفت المدّعية الأميركية بام بوندي في 7 أغسطس/ آب الماضي الرئيس الفنزويلي مؤخرًا بأنه “أحد أقوى تجار المخدرات في العالم”، ويشكّل “تهديدًا للأمن القومي” للولايات المتحدة. 

كما سبق لواشنطن أن فرضت عقوبات على “ترين دي أراغوا” كمنظمة إجرامية عابرة للحدود الوطنية في 11 يوليو/ تموز 2024، وصنّفت “سينالوا” منظمة تهريب مخدرات بارزة منذ 2009، بموجب قانون تصنيف زعماء المخدرات الأجانب، وهو تصنيف أعيد تأكيده عام 2021 بموجب الأمر التنفيذي رقم 14059.

وتندرج هذه الإجراءات ضد عصابات المخدرات ضمن سياسة ترمب لتقييد الهجرة وتشديد أمن الحدود الجنوبية، وقد نشرت الولايات المتحدة في الأشهر الماضية سفينتين حربيتين لدعم عمليات المراقبة البحرية، ومكافحة تهريب المخدرات، وفق موقع “ن ديجيتال مالتيميديا“. 

الجيش الأميركي يعزز وجوده العسكري في منطقة البحر الكاريبي وسط تصاعد التوتر مع فنزويلا – تقرير أبان الحكيم (25 أكتوبر 2025)

شبكات تهريب تتمدّد وتتعقّد

في يناير/ كانون الثاني 2025، حذّرت إدارة مكافحة المخدرات الأميركية من تزايد تهريب المخدرات في منطقة البحر الكاريبي الكولومبية، خصوصًا في مقاطعتي أتلانتيكو وبوليفار. وكشف تقرير نشره موقع “دياريو لا ليبيرتاد” عن كارتيل مجهول ينشط في المنطقة، ويتمتع بحماية واسعة.

وتشير تقارير إلى مركز لجمع المخدرات في مقاطعة أتلانتيكو يُعاد منه توزيع المخدرات نحو موانئ غير قانونية في بوليفار، قبل نقلها بزوارق سريعة، تُعرف باسم “قوارب غو فاست”، إلى الولايات المتحدة.

الضغط العسكري والأمني الأميركي لم يوقف تهريب الكوكايين، بل دفع الكارتيلات إلى ابتكار مسارات أطول وأكثر تعقيدًا تمتد من الأمازون حتى الموانئ الأوروبية.

وبحسب مجلة “سيمانا“، فإن هذه الزيادة في عمليات تهريب المخدرات مرتبطة بمنظمة إجرامية تعرف باسم “كارتيل لا غوايرا” وسّعت نفوذها في منطقة البحر الكاريبي، وتورطت ليس فقط في تهريب المخدرات، بل أيضًا في استقطاب موظفين حكوميين، وفي بعض الحالات، أفراد من قوات الأمن.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أعلنت السلطات الكوستاريكية تفكيك “كارتيل جنوب الكاريبي” في أكبر عملية من نوعها في تاريخ البلاد، بمشاركة 1200 ضابط نفّذوا 64 مداهمة. وقال نائب مدير وكالة التحقيقات القضائية، مايكل سوتو:

“كانت هذه العصابة تستولي على شحنات مخدرات لبيعها لتجار مخدرات معروفين آخرين في البلاد، وكان هناك أيضًا طريق لتهريب المخدرات إلى أوروبا والولايات المتحدة”.

ضربات أميركية مثيرة للجدل

بحسب صحيفة “واشنطن بوست“، نفذت القوات الأميركية 19 ضربة ضد مهربميين مشتبه بهم في الكاريبي وشرق المحيط الهادئ منذ سبتمبر/ أيلول 2025، أسفرت عن مقتل 76 شخصًا. 

وبرر ترمب ذلك بأن الولايات المتحدة في “صراع مسلح” مع الكارتيلات. لكن حكومتي كولومبيا وفنزويلا، إلى جانب عائلات الضحايا في ترينيداد وتوباغو، أكدوا أن القتلى كانوا صيادين مدنيين وعمالاً بسيطين.

ولم تُقدّم واشنطن أدلة علنية على أنهم مهرّبو مخدرات.

وقالت لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة إن هذه الهجمات قد ترقى إلى “عمليات قتل غير قانونية” نُفذت بأمر من حكومة، لعدم استنادها إلى إجراءات قضائية أو تحقيقات شفافة.

مسارات التهريب في منطقة الكاريبي

لطالما كان “طريق الكاريبي” أحد المسارات الرئيسية لتهريب الكوكايين من شمال كولومبيا.

وبحسب موقع “نوتيسياس كاراكول” الكولومبي، يخضع هذا الطريق لمراقبة مشتركة من الشرطة الكولومبية ووكالة مكافحة المخدرات الأميركية. وقد ضُبطت في إحدى العمليات سفينة تحمل 6400 كيلوغرام من هيدروكلوريد الكوكايين تابعة لـ”كلان ديل غولفو”.

ودفع الضغط الأمني المتزايد بالمهربين إلى استخدام مسارات بديلة، أبرزها:

  • طريق المحيط الهادئ: زوارق تنطلق من جنوب المكسيك وتعبر المياه الدولية.

  • طريق الأمازون: شحنات تُنقل من كاوكا عبر نهر الأمازون إلى الأطلسي ثم إلى أوروبا. وقد ضُبطت غواصة تحمل سبعة أطنان من الكوكايين على هذا المسار.

  • طرق جديدة نحو أوروبا: لا تزال قيد التحقيق، وتستغرق أيامًا إضافية في البحر.

مكافحة مخدرات أم تصفية حسابات سياسية؟

يثبت واقع الكاريبي أن نفوذ الكارتيلات ليس طارئًا بل جزء ثابت من المشهد الإقليمي، مستفيدًا من هشاشة الجغرافيا وغياب الرقابة ومرونة الممرات البحرية. 

أما واشنطن، فتكثّف تدخلها العسكري تحت عنوان مكافحة تهريب المخدرات، بينما يرى مراقبون أن التوقيت والسياقات السياسية يوحيان بأن المواجهة قد تكون أيضًا وسيلة للضغط على حكومات إقليمية، وعلى رأسها نظام نيكولاس مادورو.

ويبقى السؤال:

هل تسعى الولايات المتحدة فعلًا لتصفية نفوذ الكارتيلات؟ أم أن الحسم رهنُ اعتبارات سياسية تُحدّدها المصالح؟