![]()
فيما كانت رقعة القتال تتمدد في دارفور في أقصى غرب السودان لتشمل عمق مدينة الفاشر، دارت معركة لا تقل شراسة في الفضاء الرقمي، انبرت لها لجان إلكترونية قادت حملة منظمة تروج لما زعمت أنه تحرير المدينة.
وتناولت وحدة المصادر المفتوحة في التلفزيون العربي هذه الحملة بالتحليل البصري والزمني عبر أكثر من 22 ألف حساب بداية من 24 من أكتوبر/ تشرين الأول.
فقد حللت المصادر 72 ألف منشور، بدأ منحناها التفاعلي في 24 أكتوبر، وواصل الارتفاع بالتزامن مع سقوط الفاشر في 26 من الشهر ذاته، وبلغ ذروته مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني.
ولم يشكل المحتوى الأصلي سوى 13% من التفاعلات، مقابل 23% جاءت عبر الردود و63% بإعادة النشر، في تركيبة تعكس، اعتمادًا على تضخيم الرسائل، بدل إنتاج محتوى جديد في مؤشر أولي على نشاط منسق.
اللجان الإلكترونية الداعمة للدعم السريع
وأظهر التحليل شريحة واسعة من حسابات وهمية حديثة الإنشاء وأخرى أعيد تفعيلها بعد مسح أغلب تفاعلاتها السابقة.
ولتحديد النواة الأقرب إلى نمط اللجان، حصر التلفزيون العربي عينة البحث في الحسابات التي تملك بين صفر و10 متابعين فقط، فكان عددها 3159.
وتصدر السودان التوزيع الجغرافي بـ66% من المنشورات، تليه دول تستضيف جاليات ولاجئين سودانيين، كأوغندا ومصر والولايات المتحدة والسعودية والإمارات والمملكة المتحدة وعمان ونيجيريا، ما يعني أن جزءًا مهمًا من الحملة يستهدف سودانيي الداخل والمنافي، حيث يعاد تدوير السرديات عبر مجتمعات الشتات ومنصاتها.
ولم يكن التفاعل نتيجة مستخدمين تقليديين، بل شبكة واسعة تشابهت حساباتها في تاريخ الإنشاء، وفي طريقة الظهور والهوية البصرية والسلوك اليومي، وكثير منها أنشئ خلال شهور فقط هذا العام، وعدد متابعيها أقل من 200.
ورغم أن بعضها قديم على ما يبدو بالاسم على الأقل، فقد فعل حديثًا بعد حذف كامل المنشورات السابقة فيما يشبه إعادة تدوير الهوية.
وأظهر رسم بياني أن ذروة إنشاء الحسابات كانت في مايو/ أيار الماضي، ما يرجح وجود موجة تصنيع خصصت لتضخيم رواية تحرير الفاشر، حيث تحركت الحسابات في مجموعات سودانية محددة على منصة “إكس”، مثل “المغترب السوداني” و”السودان” و”الإعلام الداعم للدعم السريع”، في تموضع يبين عن إستراتيجية للاندساس داخل ساحات النقاش السوداني لرفع المصداقية المصطنعة وتوسيع دائرة الوصول.
وعملت حسابات عديدة متزامنة على أكثر من منصة من فيسبوك إلى “تيك توك” ويوتيوب، بهويات بصرية متطابقة يصعب تفسيرها إلا بوجود جهة تشغيل واحدة، في نسخ متقاطع تبرزه نماذج مثل “ريماس أحمد” وهو حساب على فيسبوك و”تيك توك” بالاسم والصورة ذاتهما إضافة إلى حساب على “إكس”، أغلق لاحقًا بسبب السلوك المريب وأعيد إنشاؤه بصورة مطابقة.
أما “جليلة المحمدي”، فهو حساب يروج للدعم السريع نشط على فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب، وعلى تيك توك، وأيضًا على منصة “إكس” التي أغلقته لاحقًا، حيث يدار من مصر حسب بيانات فيسبوك ويستخدم صورة سيدة سودانية أخذت من الإنترنت.
“أمينة ثابت”، وهي هوية نسائية سودانية بتفاصيل متطابقة على فيسبوك وتيك توك، وتبين أن الحسابات أنشئت بالتزامن في أبريل/ نيسان الماضي، مع استخدام صور مولدة بالذكاء الاصطناعي.
أما “بتول محمد”، وهو حساب على فيسبوك وإنستغرام وتيك توك، أظهر بحث عكسي أن صورة البروفايل استخدمت في عشرات حسابات اللجان الأخرى على “تيك توك”، ولجأت الشبكة لرسم قناع سوداني موحد كصور ببشرة داكنة وإطلالات مألوفة وأسماء نسائية.
وأظهر البحث العكسي أن معظم الصور وبعضها لعارضات أو ناشطات أو فائزات في مسابقات جامعية سرقت أو أعيد استخدامها، وظهرت أيضًا صور مولدة بالذكاء الاصطناعي، ما يعزز فرضية تصنيع هوية بصرية لأغراض التضليل.
فقد أظهر البحث العكسي للصورة في النموذج لحساب “ملاذ البشير”، أنها لفتاة فازت قبل 4 أعوام بمسابقة ملكة جمال جامعة إفريقيا السودان، وهي صورة منشورة في عدة مواقع ما ينفي صلتها بالحساب الذي يستخدمها.
كما استخدمت صورة أخرى منذ فترة طويلة في حسابات سودانية مختلفة، مما يرجح أن الحساب الحالي الذي سمى نفسه “نور زكي” قد انتحلها، كما أن صورة أخرى كشف البحث العكسي أنها للناشطة ولاعبة كرة السلة والشاعرة السودانية أسماء البدوي لا لصاحبة الحساب.
كما استخدم حساب حديث يروج للدعم السريع إحدى الصور، لكنها نشرت سابقا على نطاق واسع كصورة موديل محجبة على مواقع التواصل، ما يؤشر على انتحالها.
ولا تكتفي الحسابات بإعادة نشر روايات الدعم السريع، بل عملت بأسلوب جماعي متزامن، حيث تنشر النصوص أو المقاطع المصورة ذاتها، وحرفيًا تتداول بكثافة وعبر عشرات الحسابات، فيديو واحد لأحد المستخدمين تكرر وسومًا مثل قوات تأسيس السودانيون يستحقون السلام ضمن توقيتات متقاربة، ناهيك عن دخولها جميعًا في خمول متزامن أعقبه نشاط مكثف في 27 أكتوبر، ما يؤشر على جدول تشغيل هو أقرب إلى نظام نوبات العمل.
“تقديم سقوط الفاشر بوصفه تحريرًا لاحتلالها”
ورصد فريق التلفزيون العربي، إغلاق منصة “إكس” لعدد ملحوظ من حسابات مشاركة في التضخيم، وهو أمر لا يحدث عادة إلا للاشتباه في سلوك منسق مخالف للسياسات.
فبعض الحسابات أشارت إلى الإغلاقات، وهو دليل إضافي على طبيعة الحملة التي تمحورت كلماتها المفتاحية من حول مفردات مثل السودان والفاشر وأنقذ السودان مقرونة بوسوم تحمل دلالات لتقديم سقوط الفاشر بوصفه تحريرًا لاحتلالها.
وحاولت الوسوم أيضًا إعادة تعريف دور الميليشيا لتصبح قوة إنقاذ تحمي المدنيين من الحركة الإسلامية وما سمته جيش الكيزان مع عبارات تصف الجيش الذي تديره حكومة معترف بها دوليًا بتنظيم إرهابي أو ميليشيا إجرامية.
وتكرر أيضًا مصطلح تأسيس لترسيخ صورة كيان سياسي عسكري جديد بديل عن الحكومة وجيشها اللذين وصفا بسلطة بورتسودان لتجريدها من صفتي الشرعية والاستمرارية وتصويرهما كسلطة مؤقتة أو معزولة عن السودان الحقيقي.
ومثّل سقوط الفاشر ضربة كبيرة لحكومة عبد الفتاح البرهان، لكن الانتهاكات التي صاحبته كشفت عن وجه دموي لقوات الدعم السريع، سعت اللجان الإلكترونية لترميمه بحملات في الفضاء الرقمي، يشي نشاطها أيضًا بقلق عميق يعتري قيادة الميليشيا السودانية من الصورة المروعة التي ارتسمت لها في أذهان كثير من السودانيين.