![]()
بعد سقوط نظام الأسد، تحوّل ملفّ العدالة الانتقالية إلى أحد أعقد التحديات أمام الحكومة الجديدة.
ففي الوقت الذي يطالب فيه أهالي الضحايا بتسريع محاكمة المتورطين في الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري، تصرّ السلطات على أن هذا الملف يحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير وسنّ تشريعات جديدة.
ورغم مرور عام على انهيار النظام السابق، لم تُجرَ حتى الآن أي محاكمات للمتهمين الذين تم اعتقالهم.
الجراح لم تُغلق بعد في حي التضامن
الدمار، والفقر، والانتظار الطويل لعدالة ما تزال بعيدة المنال، تشكل ثلاثية تثقل كاهل الناجين من مجازر النظام السوري السابق. صحيح أن صفحة الماضي طُويت، إلا أن آثارها ما تزال ماثلة أمام الجميع.
في حي التضامن الدمشقي، لم يغادر بالكامل الموت الذي كان يخيّم على المكان، إذ ما زال هناك من لا يفارق مسرح الجريمة، وما زال حزن الأطفال على آباء قُتلوا بدم بارد يروي القصة من جديد.
أُغلقت حفرة الموت، لكن جراح ذوي الضحايا لم تُغلق بعد.
بعد سقوط النظام السابق في سوريا.. سكان حي التضامن بدمشق يترقبون مساراً قضائياً واضحاً يفتح باب العدالة الانتقالية
تقرير: عدنان جان@CanAtayturkmen pic.twitter.com/TLT2s992AL— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) December 8, 2025
العم إحسان وبعد نحو عام من لقائه الأول مع التلفزيون العربي عقب سقوط النظام، حيث كان مليئًا بالأمل، معتقدًا أن لحظة رؤية الجناة خلف القضبان قد اقتربت بعدما فقد أربعة عشر فردًا من عائلته، ما تزال العدالة بالنسبة له حلمًا معلّقًا.
يقول إحسان طعمة، أحد أبناء الحي، للتلفزيون العربي: “خلف هذه الجدران، تختبئ قصص عائلات أُبيدت بالكامل. يكفي أن تطرق أي باب لتخرج إليك آلام لا تنتهي”.
أما سميرة، وهي مواطنة سورية من الحي نفسه، فتروي لمراسل التلفزيون العربي عدنان جان قصة عائلة شقيقها: أب وأم وطفلان قُتلوا جميعًا، ولا تعرف لهم قبرًا أو أثرًا.
لكنها تعرف جيداً أن قتلتهم لم يمثلوا بعد أمام القضاء. وتقول: “قد تختلف أسماء المدن والمناطق، لكن المصائر متشابهة. المجازر خلال سنوات الثورة عمّت كل مكان، والأرقام الموثقة تُظهر حجم المأساة”.
ضحايا بالآلاف
خلال سنوات الثورة، كان الموت والتعذيب عنوان المشهد السوري. فقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بين 2011 و2025 مقتل أكثر من 234 ألف مدني، بينهم ما لا يقل عن 30 ألف طفل، وسجّلت أكثر من 45 ألف حالة وفاة تحت التعذيب، إضافة إلى اختفاء قرابة 177 ألف شخص قسريًا.
نجا بعض المعتقلين من زنازين الموت، ليبقوا شهودًا أحياء على ما حدث داخل الأفرع الأمنية. أنس واحدٌ منهم، خرج من ظلمات الأقبية ليحكي عن التعذيب والإهانات والابتزاز المالي.
ويقول: “نأمل من الدولة الجديدة أن تُرسّخ السلم الأهلي، وأن تُحقق العدالة الانتقالية، وأن تُحاسب المجرمين”.
إحسان وسميرة وأنس، ومعهم آلاف غيرهم، ينتظرون اليوم الذي سيدخلون فيه إلى قاعات المحاكم للإدلاء بشهاداتهم.
ميزان العدالة ما يزال رمزًا فارغًا في قلب دمشق، رغم تأكيد الحكومة أن الأمور تسير على الأرض. فقد واصلت حملات اعتقال رموز النظام السابق والمتورطين في الانتهاكات، ونُشر في أغسطس/ آب الماضي مقطعٌ مصوّر يُظهر بعض الأسماء البارزة أمام قاضي التحقيق.
الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية
كما تأسست هيئة وطنية للعدالة الانتقالية لمحاسبة كل من تثبت مسؤوليته عن القتل والتعذيب. ويؤكد رئيسها العميد عبد الباسط أن الطريق ما يزال مليئًا بالتحديات، وأن الإصلاح القضائي وسنّ القوانين الجديدة أمران لا بد منهما.
ويطمئن عائلات الضحايا بأن المحاسبة قادمة لا محالة. ويضيف: “عملُنا صعب ويحتاج إلى صبر. العدالة الانتقالية لا تُبنى بالسلطات وحدها، بل بشهادات الشهود وذاكرة الضحايا والإرادة المجتمعية لمنع تكرار المآسي. وهي لن تكون عدالة انتقامية أو انتقائية، ولن تقوم على العفو المطلق”.
غير أن بعض الأصوات الحقوقية ترى أن الحكومة أخطأت في اتجاهين: التعجل في طرح ملف العدالة الانتقالية، وتشكيل لجنة لا تمثّل جميع الأطراف كما يجب.
وبين مطالب الشارع وتأنّي وزارة العدل، يستمر الجدل بشأن كيفية تأسيس سلم مجتمعي حقيقي في البلاد. فالمرحلة مليئة بالعقبات، والعبء ثقيل على الحكومة الجديدة في ظل إرثٍ قاسٍ من الموت خلّفه النظام السابق.
وبين الضمانات الرسمية والشكوك الشعبية، يظل ملف العدالة الانتقالية الأكثر تعقيدًا في سوريا ما بعد الأسد. تقول السلطة إنه أولوية، بينما يرد الشارع: “لا دليل على ذلك حتى الآن”.
