![]()
كان الفساد حاضرًا في مختلف الحضارات البشرية منذ فجر التاريخ، ولا يزال حتى اليوم من أخطر المعضلات التي تهدّد استقرار الدول وتعرقل مسارات التنمية، بوصفه ظاهرة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
ففي مصر القديمة، وتحديدًا خلال عهد الأسرة الأولى بين عامي 3100 و2700 قبل الميلاد، سُجِّلت أولى الملاحظات حول انتشار الفساد داخل الجهاز القضائي.
وفي الصين القديمة، تجسّد مفهوم مراقبة السلوك الأسري في أسطورة “إله المطبخ“، الذي يراقب أفراد كل بيت طوال العام، ويصعد قبيل رأس السنة الصينية إلى السماء ليقدّم تقريره السنوي إلى حاكم السماء.
كما يروي المؤرخ اليوناني هيرودوت أن عائلة ألكميونيين الثرية في اليونان القديمة لجأت إلى رشوة كاهنات معبد دلفي، أحد أهم المراكز الروحانية في العالم اليوناني، وفق موقع “ذا كونفيرزيشن“.
اليوم العالمي لمكافحة الفساد
تُعدّ مكافحة الفساد قضية حيوية لمستقبل حوالي ربع سكان العالم، إذ يعيش نحو 1.9 مليار شاب وشابة في العالم، وفق الأمم المتحدة. وقد خصّصت المنظمة التاسع من ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، يومًا دوليًا لمكافحة الفساد.
ففي 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2003، اعتمدت الجمعية العامة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وطلبت إلى الأمين العام أن يعيّن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بوصفه أمانة مؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية، التي دخلت حيّز التنفيذ في ديسمبر/ كانون الأول 2005. وقد التزم 190 طرفًا في الاتفاقية بأحكامها.
ما هو الفساد؟
- يعرّف معجم “أوكسفورد” الفساد بأنه “سلوك غير نزيه أو احتيالي من قِبل أصحاب السلطة، وعادةً ما ينطوي على رشوة”.
- أمّا مصطلح الفساد فيعود أصله إلى اللاتينية: corruptus، وهي صيغة الماضي من كلمة corrumpere، التي تعني “أفسد، رَشى، دمّر”.
اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد
تمتنع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عن تقديم تعريف واحد جامع للفساد، بل تركّز على تحديد أفعال محددة ينبغي أن تُجرّمها كل دولة منضمة إلى الاتفاقية.
ويمثّل هذا النهج استجابةً للصعوبة الكامنة في وضع تعريف شامل للفساد، نظرًا لتنوع مظاهره على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية.
وتتناول الاتفاقية أشكالًا مختلفة من الفساد، من بينها:
الرشوة والاختلاس في القطاع العام؛
الرشوة والاختلاس في القطاع الخاص؛
المتاجرة بالنفوذ؛
إساءة استغلال الوظائف؛
الإثراء غير المشروع؛
غسل الأموال؛
الإخفاء؛
عرقلة سير العدالة.
يُعدّ الفساد مشكلةً مُتفشيةً تُقوّض المجتمعات والاقتصادات والحوكمة. ويُعرّف أيضًا بأنه إساءة استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب شخصية، وله عواقب بعيدة المدى تتجاوز الخسائر المالية المباشرة. لذا، يُعدّ فهم آثاره واعتماد استراتيجيات فعّالة لمكافحته أمرًا بالغ الأهمية لبناء مجتمعات أكثر إنصافًا واستدامة.
الكلفة الاقتصادية للفساد
يُقدَّر أن الفساد يُكلّف العالم نحو 3.6 تريليون دولار سنويًا من الرشاوى والأموال المسروقة، بالإضافة إلى 1.6 تريليون دولار تُفقَد بسبب غسل الأموال، وفق المنتدى الاقتصادي العالمي. ولا تمثّل هذه الأرقام المُذهلة إلا غيضًا من فيض تأثيره الأوسع، كما تقول ديليا فيريرا روبيو، رئيسة منظمة الشفافية الدولية.
كما يُحوِّل الفساد الموارد عن الخدمات الأساسية والاحتياجات المجتمعية. على سبيل المثال، يُقدِّر الخبراء أن أنظمة الرعاية الصحية حول العالم تخسر 500 مليار دولار سنويًا بسبب الفساد، ما يَحرِم الناس من الرعاية الطبية الضرورية والموارد المُنقذة للحياة.
بالأرقام
3.6 تريليون دولار – كلفة الفساد (رشاوى وأموال مسروقة)1.6 تريليون دولار – خسائر غسل الأموال500 مليار دولار – خسائر الفساد في القطاع الصحي سنويًا.
الرشوة الدولية
يُقدّر البنك الدولي أن الرشوة الدولية تتجاوز 1.5 تريليون دولار أميركي سنويًا، أي ما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويفوق إجمالي أموال المساعدات العالمية بعشرة أضعاف. وتشير تقديرات أخرى إلى أن الرشوة الدولية تتراوح بين 2% و5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
يُظهر مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 أن الفساد مشكلة خطيرة في جميع أنحاء العالم، إلا أن العديد من الدول تشهد في الوقت نفسه تحسنًا ملحوظًا. كما تكشف الأبحاث أن الفساد يُشكّل تهديدًا كبيرًا للعمل المناخي، إذ يُعيق التقدّم في خفض الانبعاثات والتكيّف مع الآثار الحتمية للاحتباس الحراري.
وبحسب منظمة الشفافية الدولية، يُصنّف “مؤشر مدركات الفساد” 180 دولة ومنطقة حول العالم حسب مستويات الفساد المُدركة في القطاع العام. ويعتمد المؤشر على 13 مصدرًا مستقلًا للبيانات، ويستخدم مقياسًا يتراوح بين صفر و100، حيث يُشير الصفر إلى فساد شديد و100 إلى نزاهة تامة.
تناقض صارخ بين الدول
يُبرز المؤشر التناقض الصارخ بين الدول ذات المؤسسات القوية والمستقلة والانتخابات الحرّة والنزيهة، وتلك ذات الأنظمة الاستبدادية القمعية. يبلغ متوسط مؤشر الفساد للديمقراطيات الكاملة 73 نقطة، بينما يبلغ متوسط الديمقراطيات المعيبة 47 نقطة، والأنظمة غير الديمقراطية 33 نقطة فقط.
يُظهر هذا الواقع أنه على الرغم من أن بعض الدول غير الديمقراطية قد يُنظر إليها على أنها تُدير أشكالًا معينة من الفساد أو تُحجبه، إلا أن الصورة الأوسع تُبيّن أن الديمقراطية والمؤسسات القوية ضرورية لمكافحة الفساد بشكل كامل وفعّال.
يعيش مليارات البشر في دول يُدمّر فيها الفساد حياتهم ويقوّض حقوق الإنسان. فعلى الرغم من أن 32 دولة خفّضت مستويات الفساد لديها بشكل ملحوظ منذ عام 2012، لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعيّن القيام به؛ إذ ظلّت 148 دولة على حالها أو ساءت خلال الفترة نفسها. كما ظلّ المتوسط العالمي البالغ 43 نقطة ثابتًا لسنوات، في حين سجّلت أكثر من ثلثي الدول درجات أقل من 50.
الدنمارك.. الدولة الأكثر نزاهة في العالم
للعام السابع على التوالي، تصدّرت الدنمارك التصنيف بنتيجة 90 نقطة. وجاءت فنلندا وسنغافورة في المركزين الثاني والثالث، بنتيجة 88 و84 نقطة على التوالي.
وبنتيجة 83 نقطة، خرجت نيوزيلندا من المراكز الثلاثة الأولى لأول مرة منذ عام 2012، لكنها لا تزال ضمن المراكز العشرة الأولى، إلى جانب لوكسمبورغ (81)، والنرويج (81)، وسويسرا (81)، والسويد (80)، وهولندا (78)، وأستراليا (77)، وأيسلندا (77)، وأيرلندا (77).
في المقابل، تحتل الدول التي تعاني من صراعات، أو من قيود شديدة على الحريات، وضعف في المؤسسات الديمقراطية، مراكز متأخرة في المؤشر. ووفق منظمة الشفافية الدولية، تحتل جنوب السودان (8)، والصومال (9)، وفنزويلا (10) المراكز الثلاثة الأخيرة. وتُكمل سوريا (12)، وغينيا الاستوائية (13)، وإريتريا (13)، وليبيا (13)، واليمن (13)، ونيكاراغوا (14)، والسودان (15)، وكوريا الشمالية (15) قائمة الدول الأقل تصنيفًا.
Top 10: الدول الأعلى نزاهة
- الدنمارك
- فنلندا
- سنغافورة
- نيوزيلندا
- لوكسمبورغ
- النرويج
- سويسرا
- السويد
- هولندا
- أستراليا / أيسلندا / أيرلندا
أكثر 10 دول معاناة من الفساد
- جنوب السودان
- الصومال
- فنزويلا
- سوريا
- غينيا الاستوائية
- إريتريا
- ليبيا
- اليمن
- نيكاراغوا
- السودان
جهود مكافحة الفساد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تصف منظمة الشفافية الدولية واقع جهود مكافحة الفساد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأنه “قاتم“. فمنذ عام 2012، ارتفع متوسط درجة مؤشر مدركات الفساد الإقليمي بنقطة واحدة فقط، ليصل إلى 39 من 100 درجة ممكنة، وهو من أدنى المعدلات الإقليمية في العالم.
ووفق المنظمة، ينبع ركود المنطقة في معظمه من السيطرة شبه المطلقة لقادتها السياسيين، الذين يستفيدون من الثروة بينما يقمعون أي معارضة للحفاظ على سلطتهم:
“إن سلطة القادة السياسيين حالت دون إحراز تقدّم في قضايا عالمية مثل مكافحة تغيّر المناخ أو تعزيز المساواة بين الجنسين”.
لماذا تتصدر بلدان عربية قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم؟│ تقرير من الأرشيف
ومع كل ما قد يخسره المواطنون من إجراءات المساءلة، يُستهدف أي صوت معارض، من الصحفيين إلى النشطاء السياسيين ومنظمات المجتمع المدني. وتشير المنظمة إلى أن المغرب وتونس يحاولان إسكات المطالبات بالمساءلة؛ وقد حقق المغرب 37 نقطة في مؤشر الفساد، فيما حققت تونس 39 نقطة.
وتلفت المنظمة إلى أن هذه الأنظمة تعيق المساواة بين الجنسين، حيث تكون النساء والأطفال والفئات الضعيفة الأكثر حاجةً إلى الخدمات الحكومية هي الأقل حظًا في الحصول عليها. ففي دول مثل العراق، الذي حقّق 26 درجة على مؤشر الفساد، يحاول السياسيون إضعاف مشاركة المواطنين والتلاعب بنظام الحكم لصالح حركات سياسية محددة على أساس الانتماء الطائفي والسياسي.
وتلحظ المنظمة في المقابل اتجاهات إيجابية في بعض الدول، مع تزايد وتيرة بناء التحالفات بين الجهات الفاعلة ذات التوجهات المتشابهة، في جهد عابر للحدود الوطنية لمكافحة الفساد. فبعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، التي سجلت 12 درجة على مؤشر الفساد، ثمة مطالبة قوية بالعمل على إرساء ديمقراطية حقيقية، شاملة وشفافة بحق.
الحوكمة الإلكترونية في دول الخليج
أمّا دول الخليج، فتسعى إلى زيادة الاستثمار في اقتصاد أكثر خضرة، مع خطط لتقليل الاعتماد على النفط والغاز، وتطوير تخطيط حضري أكثر استدامة.
إلى ذلك، تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على الاستثمار في الحلول التكنولوجية في الإدارة العامة، أو ما يُعرف بـ”الحوكمة الإلكترونية“.
تُثني منظمة الشفافية الدولية على هذا التحوّل الذي يُسهم في الحد من الفساد من خلال إزالة الوسطاء وتقليص الاحتكاك المباشر بين المواطن والموظف، لكنها تُشدّد في الوقت نفسه على ضرورة حماية الخصوصية الشخصية وضمان عدم تحوّل الرقمنة إلى أداة مراقبة وانتهاك للحقوق.
الحوكمة الإلكترونية: هل تقلّل الفساد؟
1) ما هي الحوكمة الإلكترونية؟
استخدام التكنولوجيا في إدارة شؤون الدولة.
تقديم الخدمات الحكومية عبر منصّات رقمية بدل المعاملات الورقية.
2) كيف تساعد في تقليل الفساد؟
تقليل الاحتكاك المباشر بين المواطن والموظف.
توثيق كل خطوة في المعاملة إلكترونيًا.
تسريع الإجراءات وتقليص البيروقراطية.
3) ما المخاطر على الخصوصية؟
تجميع بيانات شخصية حساسة في قواعد مركزية.
احتمال إساءة استخدام المعلومات أو تسريبها.
الحاجة لقوانين حماية بيانات ورقابة مستقلة.
مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد
ضمن المساعي الدولية لمكافحة الفساد، ستستضيف دولة قطر الدورة الحادية عشرة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة الفساد)، في الفترة من 15 إلى 19 ديسمبر/ كانون الأول 2025.
وكان ختام الدورة العاشرة لمؤتمر الدول الأطراف قد شهد اعتماد قرار “أتلانتا 2023: تعزيز النزاهة والمساءلة والشفافية في مكافحة الفساد“، الذي وجّه رسالة قوية مفادها أن تضافر جهود جميع قطاعات المجتمع أمرٌ بالغ الأهمية لحماية سيادة القانون وإعادة بناء الثقة في المؤسسات.
وخلال الدورة التي تُجرى كل عامين، صدرت عدة قرارات أخرى، غطّت مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك: تقييم مستويات الفساد، وفعالية تدابير مكافحة الفساد، والشفافية في الملكية النفعية، والتعاون عبر الحدود في قضايا مكافحة الفساد المدني والإداري، ودور القطاع الخاص في الفساد.
إضافةً إلى ذلك، ركّزت القرارات على التحديات الفريدة التي تواجهها الدول الجزرية الصغيرة النامية، وتناولت، لأول مرة، مواضيع مثل المشتريات، وحماية المُبلّغين عن المخالفات، وتداخل الفساد مع الجريمة المنظمة.
معركة طويلة تتطلّب شراكة شاملة
يبقى الفساد واحدًا من أخطر التحديات التي تواجه الدول والمجتمعات، نظرًا لما يخلِّفه من آثار مدمّرة على التنمية والعدالة وثقة المواطن بالمؤسسات. لكن مواجهة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتحقق عبر الإجراءات القانونية وحدها، بل تتطلّب إرادة سياسية صادقة، ومؤسسات قوية وشفافة، ومجتمعًا واعيًا يرفض التواطؤ والصمت.
فمكافحة الفساد مسار طويل يتطلّب تعاونًا دوليًا، وتفعيل آليات المساءلة، وحماية المُبلّغين، وإشراك مختلف الفئات في تعزيز النزاهة. وعندما تتكاتف الدولة والمجتمع على بناء منظومة تقوم على الشفافية والمساءلة، يصبح من الممكن تحويل مكافحة الفساد من شعار إلى واقع، يرسّخ الثقة ويؤسّس لمستقبل أكثر عدلًا واستقرارًا.
